كنت متدينا... والآن أبصر - 1-
ابراهيم القبطي
في مجتمع تسوده أخلاق القبيلة ، تصبح كل قضية فكرية مجالا لصراع عرقي قبلي لا ينتهي ، غالبا ما يكون أولى ضحاياه الروح الإنسانية الحرة . هذه هي صورة ما يحدث الآن بين بعض أتباع الطوائف المسيحية في مصر (1)
، لقد كنت دائما في كتاباتي متجنبا لكل ما يشير إلى الخلافات الطائفية ، ليقيني أن ما يجمع الطوائف المسيحية أكثر بكثير مما يفرقها (2) ، وأزداد ألمي عندما رأيت كيف تُستغل الطائفية كورقة سياسية لتلهي مسيحيي مصر عن حقوقهم وعن حياتهم وقضاياهم وضحايهم ، فكان لابد أن اشارك الجميع قناعاتي حول الطائفية الدينية والفكرية والمذهبية (3) ...
---------------------------
مراحل ...
في الأمور الفكرية والدينية على عمومها ، أو الطائفية على خصوصها مرّ تفكيري بثلاث مراحل (4) :
المرحلة الأولى كانت تمثلها الدوجمائية وثوابت الدين والشريعة والطائفية والوطن والأمة والمجتمع (5) ، حينما يحيا الفرد في بيئة اعتاد عليها دونما فحص أو تحليل أو نقد ، ولكن هذه المرحلة بدأت تهتز في أوائل المرحلة الجامعية. وقتها كثيرا ما كانت تدور بيننا نحن الطلبة الكثير من المجادلات الدينية ، بين مسلمين ومسيحيين ، أو بين أتباع الطوائف المسيحية المختلفة ... تعاركنا ، وتصارعنا ، تخاصمنا ثم تصالحنا ... واستمرت الحياة كأن شيئا لم يكن ، أنهينا دراساتنا ، وتخرجنا وانصرف كل واحد إلى حياته ، ولكن بقى السؤال الوحيد الذي تعاركت معه وتعارك معي ... السؤال الذي قادني إلى تكسير كل الثوابت من أجل الوصول إلى الحقيقة
والسؤال هو: ما هو المقياس الذي يحدد الصواب من الخطأ في الفكر أوالعقيدة أو الحقوق أو الحريات؟
---------------------------
عالم الشك واللايقين ...
قادني هذا السؤال عبر رحلة طويلة إلى المرحلة الثانية
إلى حرية وعشوائية الفكرة الإنسانية المجردة ، بكل جمالها وطغيانها وقسوتها في آن واحد ، عندها تركت الجاذبية والأمن والأمان ، وتجردت من كل شئ إلا إنسانيتي ، ودخلت عالم الشك واللايقين بل واللاأدرية ، قرأت لنيتشه ، وماركس ، لفولتير وروسو ، لكانط وهيجل ، لمونتيسكو وبالزاك ، لوليم بليك ودانتي ، لفرانسيس بيكون وديكارت، لفرويد وداروين ، فصرت أتساءل هل هناك إله حقا أم أنها أضغاث أحلام ؟ هل اليقين في الحواس المادية أم في عالم الروح ؟
وكأنما أبت الحرية الإنسانية المجردة إلا أن تقتل داخلي كل شعور بيقين أو ايمان ...
وعندها تراءت لي صورة كاملة للعقائد البشرية . وأن كل يملك مبرراته ومقاييسه للحقيقة:
هناك من يستعمل مقاييس المجتمع وتقاليده وعادته ، ما يتفق معها هو الصحيح ، وما يخالفها هو الخطأ ... فكيف نحكم أيها صحيح ؟... مجتمعات الشرق أم الغرب أم الشمال أم الجنوب ؟ مجتمعات القديم أم الحديث؟
وهناك من يستعمل مقاييس الدين والتشريع الديني ، ويعتبرها مقياس رباني ، فكيف يتم الحكم بينهم ، وكلٌ يدعي بصحة تشريعه وكتابه محتكما إلى نص يراه مقدس ... ؟
وهناك من يستعمل مقاييس المصلحة ... مصلحة الامة ، مصلحة الوطن ، فلمن ينبغي الاحتكام؟ .. إلى مصلحة الأمة أم مصلحة الدكتاتور الذي يحكم الأمه ؟ أم مصلحة الوطن ؟ واي وطن نعني؟
ولما تعذرت الإجابة كان علي أن أعيد طرح السؤال بطريقة أفضل .
فقررت التركيز على طارح السؤال بدلا من السؤال نفسه ، والتحول من الفكرة إلى الشخص طارح الفكرة
فكل من طرح السؤال للوصول إلى الحقيقة لم يكن إلا إنسانا .. بشريا يحمل كل صفات البشر.
والإنسان جاء أولا قبل المجتمع والأمة والتشريعات الدينية والغير دينية ...
فلماذا إذن لا نستعمل المقياس الإنساني ؟
كل ما يحترم الإنسان وحقوق الإنسان وحرية الإنسان ، وآدمية الإنسان ... هو الحق
وكل ما ينتهك أيا من هذه ، هو الضلالة بعينها ، فمن هو أشر من الإنسان عندما يكفر بنفسه ، فلن يبقى فيه إنسان ليعي به أي مقياس آخر ...
------------------------
غارق في الإنسانية ...
إلا أنني اكتشفت أن الالتجاء إلى المقياس الإنساني وحده كان مجرد مرحلة وسيطة .. لأنني فشلت بعدها في تعريف ما هو المقصود بالإنساني ؟
الإنسان يتغير بتغير العادات والمجتمع والظروف والأزمنة .... فالمقياس البشري إذن نسبي متغير ، لا يملك أهم الصفات في أي مقياس ، وهو الثبوت
فهل حقوق الإنسان تعني حقوق الإنسان كفرد ؟ وماذا لو تعارضت حقوق الأفراد ؟ ايهم هو الحق؟
أم نعني حقوق الإنسان كنوع أو جنس كامل ؟ ومن يحدد حقوق الجنس الإنساني بأكمله ؟
منظمة أم هيئة أم وطن أم دولة أم أفراد بعينهم ؟
وبالمثل حرية الإنسان : من يضع حدود حرية الإنسان ؟
وإذا وضعت للحرية حدود ، فهل هي حرية بعد ؟
ثم عاودت قراءة التاريخ فوجدت أمثلة على محدودية المقياس الإنساني ، فمثلا عصر التنوير والإنسانية الذي بدأ مع القرن ال18 في أوروبا ودعا له روسّو (Rousseau) وفولتير (Voltaire) وغيرهما لم ينجو من الخطايا
الثورة الفرنسية - الابنة الشرعية لعصر التنوير- التي قامت على المقاييس الإنسانية فنادت بالحرية والآخاء والمساواة ، كانت من أكثر الثورات دموية في التاريخ ، لأن الحرية قامت من أجل العامة فسحقت الخاصة ، والمساواة قامت من أجل الفقراء ، فقطعت رؤوس الأغنياء ... فلو قررنا أن ثورة فرنسا إنسانية ذات مقاييس إنسانية ، كان لابد من قطع الأغنياء والخاصة عن جنس البشر ...
والثورة الشيوعية بالمثل ، قامت من أجل تحقيق الحرية للبروليتاريا أو الطبقة العاملة من ظلم وطغيان أصحاب رؤوس الأموال ، ولكنها فشلت لأنها قررت أن تحقق الحرية على خطوات بدأتها بذبح الحرية والوصاية على الطبقة العاملة ، وإنشاء مجتمع تحكمه الأقلية بقبضة من الحديد ... فلو قررنا أنها شيوعية إنسانية ، لكان لابد من إستثناء أصحاب رؤوس الأموال من الجنس البشري
بهذا رأيت تحول الفكرة الإنسانية المجردة إلى عقيدة دوجمائية شبه دينية تسحق الآخر المخالف ، وأدركت عندها أن المقياس الإنساني وحده لا يمكنه الوصول إلى يقين بصحة أو خطأ الكثير من الأمور ، ومازال المجتمع الغربي مليء ببذور صراعات خلقتها النظرة الإنسانية المجردة ، فبعضهم ينادي بحق المرأة في التخلص من جنينها ، وآخرون يرون على العكس أن حق الطفل في الحياة أعظم ، ترى أيهما هو الصحيح ؟
وبينما يرى بعضهم حرية التعبير والفكر تمتد إلى حد السماح بالقذف والسب ، يراها آخرون ابتذال لا حرية ، بل وانتهاك لحرية آخرين نالهم هذا السب بأذى ... ترى أيهما على حق؟ وأين تقف حدود النقد ؟ وحرية الابداع ؟
لقد كان المقياس الإنساني إذن مجرد خطوة ايجابية سمحت بمزيد من الحرية ، والقدرة على النقد والتحليل لكل المجتمعات والعقائد والسلوكيات ... إلا أنه لم يكن كافيا كمعيار للحقيقة ؟
فما الذي يضمن الوصول إلى مقياس إنساني موحد ومطلق ... يحترمه الجميع ؟
هل هناك مقياس مطلق وإنساني في آن واحد ...؟
------------------------
الإنسان الخالد ...
لم اجد المطلق إلا في الألوهة ، ولم اجد الإنساني إلا في الإنسان ، وهنا اكتشفت ما كنت أبحث عنه ... لقد كنت أبحث عن الإله الإنسان ، أو الإنسان المطلق ، هذا الإنسان المطلق (Übermensch) دعا إليه نيتشه (Nietzsche) وتنبأ بمجيئه المستقبلي في كتابة "هكذا تكلم زرادشت" (Thus Spoke Zarathustra) ، ولكن "شيسترتون" (G.K. Chesterton) أحد الكتاب الإنجليز المعاصرين لنيتشه أعلن أنه قد جاء بالفعل منذ 2000 عام ومازل يحرك التاريخ ... كان هذا في كتابه "الإنسان الخالد" (The Everlasting Man)
الإنسان المطلق إذن هو المقياس الحقيقي الذي اتفق عليه الملحد كنيتشه والمؤمن كشيسترتون ، وهو الأخلاقي الحقيقي الذي يمكن الاحتكام إليه كمقياس للحق والحرية والفكر .
هو الذي يملك الفصل بين حقوق الأم وجنينها ، بأن يمنح الأم المزيد من الإنسانية لتحافظ على جنينها ولا تفكر في قتله أو إجهاضه ، وهو الذي يملك الحرية للبروليتاريا ورأس المال معا ، لأنهم يتصارعون على مالايملكون ، وهو المالك الحقيقي ، وهو الذي يملك القدرة على المصالحة بين الفقير والغني ، وبين الملك والرعية ، لأن سلطانهم وبرلمانتهم جُعلت من أجل الإنسان ولخدمة الإنسان ... وهو أصدق ممثل للإنسان.
الإنسان المطلق هو الحلم الإنساني القديم بتصالح الإله مع الإنسان ، وهو الحلم الذي ملأ الأساطير الاغريقية واليونانية بأنصاف الآلهة والأبطال .
لم يظهر هذا المفهوم في ذهني إلا تدريجيا ، عندها إنطلقت إلى المرحلة الثالثة والأخيرة من حرية الشك واللا يقين ، إلى حرية المسيح
لقد أكتشفت بعد صراعات مع أديان وعقائد وأفكار من أقصى درجات التطرف في الإلحاد إلى أقصى درجات التطرف في الصوفية ، أنني كنت أبحث عن المسيح ...
مسيح يعيد الإنسانية إلى الإنسان ، ويؤكد على أن الدين والتشريع والسبت والحضارة والفكر من اجل الإنسان ... لا العكس
مسيح يتخطى ثوابت النص والشريعة والعقيدة والدين والالحاد ، إلى رحاب الفكر الإنساني بأكمله .. إلى جوهر الإنسانية
فالمسيح هو الكيان التاريخي الوحيد الذي أعلن نفسه كألوهة مجسمة في صورة إنسانية .
لم يكن المسيح مجرد فكرة تاريخية جميلة ، بل شخصا ملموسا حقق حلم البشرية الأعظم بأن قهر الموت في حدث تاريخي موثق (6).
قبله أمتلأ التاريخ بأساطير لشخصيات وهمية ، كانت تمثل حلم البشر بالإله الإنسان ، وبعده تحول التاريخ ليحقق للإنسان الحلم الإلهي الموعود (7).
المسيح التاريخي كان نقطة فاصلة في تاريخ البشرية ، حتى أن أكثر الدول حضارة احتفظت بيوم ميلاده مقياسا للتقويم ، وبعد المسيح لم يأت فكر أو دين أو تشريع خاليا من تأثيره ، لأنه كان مقياس المقاييس .
لقد صارت فكرة المسيح مقدسة ، وخارقة لجوهر الطبيعة الانسانية ، لا يستطيع رفضها لا المسلم أو الملحد أو البهائي أو حتى السحرة والمشعوذين . قد يختصرونه إلى مصلح أو نبي أو فيلسوف أو معلم أو حتى مشعوذ ، أو قد يهاجمون قداسته وإنسانيته ، ولكنهم لا يستطيعون تجاهله أو الهروب من جاذبيته الآسرة ...
ولم يكتف المسيح بأن يكون مقياسا إنسانيا مطلقا ، حيث اليقين المطلق وحرية الإنسان تجتمعان ... بل صار جزءا من الكيان الداخلي لكل من يؤمن به ، وصورة مطبوعة على قلوب محبيه ، ينحت منها كل إنسان مسيحا داخله ، ليملك قبسا من روح المسيح الإلهي داخله ، ويحوي المطلق داخل وجدانه ، وكلما تمثلت صورة المسيح داخل قلب أي انسان ، كلما صار أكثر إنسانية ، وصار أكثر قبولا للآخر ، وأكثر فهما للحرية الإنسانية حيث يرى حرية الآخر امتدادا لا تحديدا لحريته الشخصية ، وأصبح أكثر قدرة على تحليل ونقد فكر الآخر في ضوء المقياس الإنساني المطلق.
وبهذا المقياس وحده – المسيح لا غيره - يمكن أن تتحطم الخلافات الطائفية والنعرات الدينية ، لأن المسيح شخصا لا عقيدة ، وإنسانا إلهيا لا دين له .
يتبع بالجزء الثاني ....
------------------
الهوامش:
(1) فبينما أحترف الأنبا بيشوي تكفير الطوائف البروتستانتية وأقام المؤتمرات لتكفير الآخر ، ولطبخ المؤامرات ضد كل صوت حر ، ظهر على الساحة من يعبر عن التطرف البروتستاتني ممثلا في الدكتور حنين ، الرجل الذي ظهر فجأة بعد تحوله إلى البروتستانتية ليعلن أنه كان أرثوذكسيا والآن يبصر ، فأثار الكثير من الجدل والجدال ...
(2) فما يجمعها هو المسيح نفسه ، وهو يكفي
(3) وهي لا تمثل إلا أفكاري ، التي لم ولن أفرضها على احد.
(4) هذا المقال لا يغطي كل تفصيلة أو جدل فكري ، بل يختزل سنوات وسنوات في قليل من السطور أتمنى ألا تكون مخلة بالمعنى
(5) يتعامل المقال مع التدين كعقيدة موروثة جامدة ، يتعصب لها الفرد كما يتعصب لقبيلته ، يشترك في التعصب لها المسيحي والبوذي والهندوسي والزرادشتي والبهائي ... وكل منهم لو ولد في بيئة مختلفة ولأبوين مختفلين لتغير دينيه وتعصبه وانتمائه القبلي إلى عقيدة أخرى.
(6) أعني به حدث القيامة من الموت والذي توثقه الكثير من المراجع التاريخية والآثار من القرن الأول الميلادي .
(7) للمزيد راجع سلسلة مقالتي عن تجسد الكلمة في الحوار المتمدن
تجسد الكلمة : الحاجة إلى تجسد الإله
تجسد الكلمة : التجسد كحدث في التاريخ
تجسد الكلمة : التجسد و تثوير الانسان والحضارة
تجسد الكلمة : التجسد و تثوير الانسان و الحضارة –الجزء الثاني