For God so loved the world, that he gave his only begotten Son, that whosoever believeth in him should not perish, but have everlasting life.

الأربعاء، ١ سبتمبر ٢٠١٠

تخاريف رجال الأزهر

تخاريف رجال الأزهر


بقلم : كامل النجار

يحمل الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف المصرية على الانترنت كتاباً عنوانه "حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين". وقد قامت نخبة من "علماء" الأزهر بتأليف هذا الكتاب، منهم: الدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف، دكتور عبد الصبور مرزوق، دكتور عبد العظيم المطعني، دكتور علي جمعة محمد، دكتور محمد عمارة، ودكتور محمود حمدي مرزوق. وليس من شك في أن هذه نخبة يُحسب لها حساب.

تقول مقدمة الكتاب، التي كتبها السيد وزير الأوقاف "هذا الكتاب يُفند مائة وسبعة وأربعين شُبهة حول الإسلام العظيم". ويبدو من عنوان الكتاب أن اللجنة الموقرة لا تجيد قواعد اللغة العربية التي نزل بها القرآن الذي يدافعون عنه. فالتمييز في العنوان هو كلمة "شُبهة" وهي مؤنث، ولذلك يجب أن يكون العدد المميز "مائة وسبع وأربعين" وليس "سبعةً" كما ورد في العنوان، لأن تمييز الأعداد المركّبة من 11 وما فوقها يكون الجزء الأول فيها عكس التمييز من ناحية التذكير والتأنيث، فنقول "انتظرت رجوعك أربعةَ عشرَ يوماً وثلاث عشرةَ ليلةً". وقد فطن الدكتور حمدي زقزوق لهذه القاعدة أخيراً، وقال في نهاية المقدمة: "والكتاب الذى نقدمه اليوم إلى القارئ الكريم يتضمن الرد على مائة وسبع وأربعين شبهة، وقد اشترك فى هذا العمل العلمى الكبير عدد من العلماء المعروفين ممن لهم باع طويل فى مجال الدراسات الإسلامية" انتهى.
لن أحاول هنا أن أرد على كل الشبهات لأني في هذه الحالة سوف أضطر إلى تأليف كتابٍ كامل أفند به حججهم الواهية التي لا تختلف إطلاقاً عما هو مكتوب في كتب القدماء، التي تستشهد بالشعر الجاهلي (والقرآن أصلاً مسروق من الشعر الجاهلي). ولكني سوف أختار بعض رددوهم على بعض الشبهات وأفندها كلما سمح لي وقتي إنْ شاء العقل.

-1-

الشبه 14: نصب الفاعل

قالوا: (هذه شبهة خفيفة الوزن ، تدل على أمرين راسخين فيهم:
الأول: جهلهم الفاضح بقواعد اللغة العربية.
الثانى: تهافتهم الأعمى على تصيُّد الشبهات ، والبحث عن العيوب والنقائص) انتهى.
وقد رأينا من العنوان أن الشيوخ لا يحسنون القواعد أكثر من غيرهم، ولكنهم لا بد لهم أن يصموا المخالف بالجهل. والمشكلة تكمن في الآية (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماماً ، قال: ومن ذريتى قال لا ينال عهدى الظالمين). وطيعاً مؤلف القرآن أخطأ هنا وقال (لا ينال عهدي الظالمين) بدل (الظالمون) التي هي الفاعل. فقال الشيوخ:
(الفعل " نال " فعل متعدٍ إلى مفعول واحد ، قال الله تعالى:
(ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً) (الأحزاب 25)
الفاعل " واو الجماعة " والمفعول " خيراً ".
أما فى هذه الآية التى اتخذوها منشأ لهذه الشبهة " لا ينال عهدى الظالمين " فالفاعل هو " عهدى " ، مرفوع بضمة مقدرة ، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة ل " ياء " المتكلم ، والمفعول به هو " الظالمين " وعلامة نصبه هى " الياء " لأنه جمع مذكر سالم ، ينصب ويجر ب " الياء " والمعنى: لا ينفع عهدى الظالمين. ومجىء " الظالمين " منصوباً هو قراءة الجمهور من القراء. وليس فى مجىء " الظالمين " منصوباً على المفعول به خلاف بين العلماء. بل إنهم نصوا على أن خواص الفعل " نال " أن فاعله يجوز أن يكون مفعولاً ، ومفعوله يجوز أن يكون فاعلاً ، على التبادل بينهما ، قالوا: لأن ما نالك فقد نلته أنت). انتهى.
وهنا يقوم الشيوخ بحركات بهلوانية عظيمة ويحاولون صرف انتباهنا إلى أشياء أخرى غير نصب الفاعل، فيخبرونا أن "نال" فعل متعدٍ إلى مفعول واحد، وهو غير الفعل المتعدي على مفعولين. وماذا يهمنا إذا كان الفعل متعدٍ لمفعول واحد أو اثنين أو ثلاثة؟ فهذه ليست نقطة الخلاف. وهم كالعادة يشغلون القاريء بتوافه الأمور ليشغلوه عن الأمر الأهم. فمثلاً ابن كثير عندما فسر الآية (لا ينال عهدي الظالمين) شرح العهد بأكثر من أربعة شروح ثم تحدث عن الكلمات التي ألقاها الله إليه وعن حلق العانة ونتف الإبط والختان وكيف ختن إبراهين نفسه بالقدوم، ولم يتطرق لنصب الفاعل إطلاقاً، كأنما هو شيء عادي أن ننصب الفاعل.
أما شيوخ الأزهر فحاولوا صرف انتباهنا بإعراب آية أخرى تحتوي على كلمة "ينالوا" وهي (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً). وحتى هذه الآية تُظهر أن الكافرين لم ينالوا خيراً، فكلمة "نال" تعني "حاز عليه" كما يقول القاموس المحيط للفيروزآبادي. وبالتالي يمكن أن نقول إن في الآية سبب الخلاف: لا ينال الظالمون العهد، أي لا يحوزوا عليه. وبما أن الظالمون هم أشخاص يجوز لهم حيازة الأشياء، وبما أن العهد شيء غير محسوس ومعنوي فقط، فالمنطق يقول إن الشخص يحوز على الشيء غير المحسوس، ولا يُعقل أن يحوز الشيء غير المحسوس على الشخص أو الأشخاص. ولذلك الظالمون هم الفاعل والعهد مفعول به. وقد اختلف المفسرون في كلمة العهد نفسها عدة اختلافات، فقال ابن عباس: هو النبوة: وقال مجاهد: هو الإمامة، وقال قتادة: هو الإيمان. فكل هذه الأشياء من نبوة وإمامة وإيمان، يحوز عليها الشخص فيصبح نبياً أو إماماً أو مؤمناً، فالشخص هو الفاعل. ولا يمكن أن تحوز الإمامة أو النبوة الشخص ليصبح مفعولاً به.
وفي تفسير القرطبي للآية المذكورة، يقول: (حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله " لا ينال عهدي الظالمين" قال: لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون). فواضح هنا أن عهد الله هو المفعول به والظالمون هو الفاعل.
فقول شيوخ الأزهر (" فالفاعل هو " عهدى " ، ... والمعنى: لا ينفع عهدى الظالمين.) هو قول أقل ما يقال عنه إنه بهلوانية ولعب بالكلمات لتبرير خطأ واضح للعيان وضوح الشمس في صحراء مكة .

وقد ضرب الشيوخ بالأمانة العلمية عرض الحائط عندما قالوا: (وليس فى مجىء " الظالمين " منصوباً على المفعول به خلاف بين العلماء). ولم يذكروا لنا، كما ذكر القرطبي في تفسيره للآية (وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف "لا ينال عهدي الظالمون" بالرفع).

وكذلك قال الطبري في تفسيره (ذُكر أنه في قراءة ابن مسعود "لا ينال عهدي الظالمون؟ وإنما جاز الرفع في "الظالمين" والنصب، وكذلك في العهد لأن كل ما نال المرء فقد ناله المرء) انتهى.

وآخر جملة في قول الطبري فيها تغول على الحقيقة لأني مثلاً قد نلت شهادة جامعية ولكن الشهادة لا يمكن أن تنالني. فحتى الطبري يمارس الحركات البهلوانية ليبرر خطأ القرآن.
وحتى تكتمل التمثيلية أتى شيوخ الأزهر بآية من سورة الحج تقول (لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ). فالقرآن الذي بين أيدينا الآن بعد أن نقّحه الحجاج بن يوسف وأبو الأسود الدؤلي وغيرهم، جعل الله المفعول به ولحومها الفاعل، وهو منطق يقلل من قيمة الله فيجعله مفعولاً به والفاعل اللحوم وهي جماد. ولكن المعنى السليم يحتم علينا أن نقول إن الله لن ينال لحومها، لأن الله ليس جماد ويمكنه أن يحوز على الأشياء ولا تحوز الأشياء عليه. وعلينا أن نتذكر أن المصحف عندما جمع في البدء لم تكن الكلمات منقطة أو منونة وليس عليها علامات الرفع والنصب. ولا بد أن الآية كانت (لن ينال اللهُ لحومها ولا دماءها) ولكن مع الزمن ودخول علامات الترقيم لحق بالآية تحوير فأصبح الله الحي القيوم مفعولاً به والجماد فاعل.

-2-

الشبهة رقم 6: الكلام المتناقض

يقول كبار "علماء" الأزهر: (((جاء فى سورة النساء: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً). ولكنّ الناقدين يقولون: (نجد فيه التناقض الكثير مثل: كلام الله لا يتبدل

(لا تبديل لكلمات الله ) (يونس 64): (وإذا بدلنا آية مكان آية..(النحل 101) (لا مبدل لكلماته ) (الكهف 27): (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ) (البقرة 106) (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر 9): (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) (الرعد 39))) انتهى.

هذه هي الشبهة التي أراد "علماء" الأزهر دحضها للمرة الأخيرة حتى لا يقول بها قائل بعد اليوم، فبماذا أتوا لدحض هذه الشبهة التي هي حقيقة ماثلة لكل ذي عقل؟

يقول "علماء الأزهر": ((الصورة الأولى للتناقض الموهوم بين آية يونس: (لا تبديل لكلمات الله) وآية النحل (وإذا بدلنا آية مكان آية..) لا وجود لها إلا فى أوهامهم ويبدو أنهم يجهلون معنى التناقض تمامًا. فالتناقض من أحكام العقل ، ويكون بين أمرين كليين لا يجتمعان أبداً فى الوجود فى محل واحد ، ولا يرتفعان أبداً عن ذلك المحل ، بل لا بد من وجود أحدهما وانتفاء الآخر ، مثل الموت والحياة. فالإنسان يكون إما حيًّا وإما ميتا ولا يرتفعان عنه فى وقت واحد ، ومحال أن يكون حيًّا و ميتاً فى آن واحد ؛ لأن النقيضين لا يجتمعان فى محل واحد)) انتهى.

يحاول الشيوخ هنا خلط الأوراق لتشتيت تركيز القاريء، فهم يجمعون بين التناقض اللغوي والتناقض الوجودي أو تناقض مكونات الوجود. فالتناقض اللغوي فرع كبير من فروع بلاغة اللغة العربية يُسمى الطباق، حيث يجمع الشاعر أو المتحدث كلمتين متضادتين في بيت شعر أو جملة واحدة، كما قال الشاعر العربي:

الوجهُ مثلُ الصبحِ مُبْيضُّ *** والشَعرُ مثلُ الليلِ مُسودُّ

ضدانِ لما أُستجمعا حَسُنا *** والضدُ يُظهرُ حسنه الضدُ

أما التناقض الوجودي مثل بارد وساخن أو ميت وحي، فهذه صفات لمكونات الوجود من معادن وخلايا حية وأجرام سماوية. فسخونة الماء تنفي عنه البرودة، ولا يمكن أن يكون الماء ساخناً وبارداً في نفس الوقت، كما لا تكون الخلية حية وميتة في نفس الوقت لأن ذلك يتطلب تغييراً في فيزياء الأجسام يحولها من حالة طبيعية ألى حالة مضادة لها. ونحن هنا نتحدث عن آيات القرآن التي هي كلام منطوق أو مسموع، وما الكلام إلا لغة تتكون من كلمات تعارف عليها البشر لتعني أشياء محددة يفهمها كل من يتحدث تلك اللغة. فليس هناك مجالٌ لإدخال التناقض الوجودي في نقاش آيات القرآن.

وقولهم (فالتناقض من أحكام العقل ، ويكون بين أمرين كليين لا يجتمعان أبداً فى الوجود فى محل واحد)، تعريف لا يمت للعلم بشيء، إذ أن كلمة "الأمر" كلمة مبهمة يمكن أن تنطبق على أي شيء يخطر ببال الإنسان. وهناك أحكام أو قوانين الطبيعة التي لا يمكن أن يكون بينها تناقض لأن التناقض هنا يعني نهاية القوانين التي تحكم العالم وبالتالي نهاية الوجود، ولذلك اعتبر فلاسفة التنوير في القرن التاسع عشر أن الله هو قوانين الطبيعة. ولكن من ناحية الأجسام المحدودة فيمكن أن يجتمع الشيئان المتناقضان في مكان واحد في الوجود. فمثلاً عين الإنسان يجتمع بها الأبيض والأسود، وهما ضدان متناقضان. وفي نواة أي خلية حية Nucleus يجتمع عدد من الجزئيات الموجبة Protons مع عددٍ مساوٍ من الجزئيات السالبة Electrons. وفي جسم الإنسان تجتمع الخلايا الميتة مع الخلايا الحية، فجميع الخلايا السطحية في جسم الإنسان خلايا ميتة، وما تحتها خلايا حية، وبالتالي يمكن أن يجتمع الحي والميت في جسم واحد. وعليه فإن دفاع الشيوخ عن تناقض آيات القرآن بمحاولة الزج بتعريفات غير صحيحة في صلب النقاش، دفاع لا يُقنع المطلعين. أما إذا أرادوا إقناع العامة وأنصاف المتعلمين بذلك فقد يفلحون في مسعاهم، وهؤلاء أصلاً لا يحتاجون إقناعاً.

ثم يقول لنا الشيوخ ((محال أن يكون إنسان ما لا حى ولا ميت فى آن واحد وليس فى القرآن كله صورة ما من صور التناقض العقلى إلا ما يدعيه الجهلاء أو المعاندون . والعثور على التناقض بين الآيتين المشار إليهما محال محال ؛ لأن قوله تعالى فى سورة يونس (لا تبديل لكلمات الله) معناه لا تبديل لقضاء الله الذى يقضيه فى شئون الكائنات ، ويتسع معنى التبديل هنا ليشمل سنن الله وقوانينه الكونية. ومنها القوانين الكيميائية ، والفيزيائية وما ينتج عنها من تفاعلات بين عناصرالموجودات ،أو تغييرات تطرأ عليها. كتسخين الحديد أو المعادن وتمددها بالحرارة ، وتجمدها وانكماشها بالبرودة. هذه هى كلمات الله عزّ وجلّ)) انتهى

وهذا هو المنطق الزئبقي الذي اشتهر به شيوخ الإسلام واستطاعوا بواسطته تغيير معاني الكلمات المتعارف عليها بين الناس، وأعطوا بعض الكلمات معانٍ هي الضد لما تعارف عليه أهل اللغة. فلو كانت كلمات الله هي القوانين الطبيعية من انكماش وتمدد المواد الطبيعية بفعل الحرارة والسخونة كما يقول الشيوخ، فكيف نفسر هذه الآيات من القرآن: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) (الكهف 109). فنحن نعرف أن المداد يُستعمل لكتابة الكلمات المنطوقة، وواضح من الآية هنا أن الله أراد بكلمة "كلمات" الكلام المنطوق باللغة العربية وليس تبريد وتسخين الحديد. فالله لا يحتاج إلى القلم والدواة ليكتب قوانين الطبيعة.

وكذلك يقول لنا القرآن (ولو أنما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) (لقمان 27). مرة أخرى يتضح لنا أن كلمات الله يعني الكلمات التي تُكتب بالمداد والأقلام، وليس القوانين الطبيعية كما يزعم الشيوخ الزئبقيون.

والآن بعد أن عرفنا أن كلمات الله هي الكلمات اللغوية، نرجو من الشيوخ أن يبينوا لنا معني هذه الآيات المتناقضة لغوياً:

(فوربك لنسألنهم جميعا عما كانوا يفعلون) (الحجر 92)،

(ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون) (القصص 78)،

و (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه أنس ولا جان) (الرحمن 36-39).

فهل يسألهم الله يوم القيامة أم لا يسألهم؟ أليس هذا تناقضاً واضحاً حتى لفاقد البصر؟

وكذلك (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله واصلحوا بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) (الأنفال 1). فالأنفال أي الغنائم كلها لله ولرسوله.

ثم يقول لنا في نفس السورة (واعلموا إنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير) (الأنفال 41).

والآن أصبح نصيب الله والرسول من الغنائم هو الخُمس فقط وأربعة الأخماس الباقية للمقاتلين. حدث هذا التناقض بين الآيتين في نفس السورة، فهل يبدل الله فكره بهذه السرعة؟

أم هذه ليست كلمات الله؟ أم أن التناض هنا تناقض في قوانين الطبيعة وليس في القرآن؟

ويستمر الشيوخ في تبريراتهم الخاطئة، فيقولون: (((ولا تناقض فى العقل ولا فى النقل ولا فى الواقع المحسوس بين مدلول آية: (لا تبديل لكلمات الله) وآية: (وإذا بدلنا آية مكان آية.).لأن معنى هذه الآية: إذا رفعنا آية ، أى وقفنا الحكم بها ، ووضعنا آية مكانها ، أى وضعنا الحكم بمضمونها مكان الحكم بمضون الأولى. قال جهلة المشركين: (إنما أنت مفتَرٍ). فلكل من الآيتين معنى فى محل غير معنى ومحل الأخرى.

فالآية فى سورة يونس (لا تبديل لكلمات الله) والآية فى سورة النحل: (وإذا بدلنا آية مكان آية..) لكل منهما مقام خاص ، ولكن هؤلاء الحقدة جعلوا الكلمات بمعنى الآيات ، أو جعلوا الآيات بمعنى الكلمات زوراً وبهتاناً ، ليوهموا الناس أن فى القرآن تناقضاً. وهيهات هيهات لما يتوهمون))) انتهى.

قد لا يكون هناك تناقض في النقل، ولكن هناك تناقض كبير في العقل. فالآية، كما أوضحنا لهم أعلاه، تعني الكلمات في السورتين المذكروتين ولا تعني القوانين الكونية. ولأن الشيوخ نزعوا الآيات التي التي أتوا بها عن سياقها العام ولم يأتوا بما بعدها، اعتقدوا أنهم يمكن أن يخدعوا الناس. والآية التي ذكرها الشيوخ مبتورةً تقول (وإذا بدلنا آيةً مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون. قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبّت الذين آمنوا وهدًى وبشرى للمسلمين. ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلّمه بشر لسان الذي يُلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (البقرة 101-103).

وأعتقد أنه ليس هناك أدنى شك في أن القرآن عندما قال (وإذا بدلنا آية مكان آية) يقصد الآية القرآنية التي نزل بها جبريل، وجبريل لم ينزل لمحمد بقوانين الطبيعة. والدليل على أنه قصد الآيات المنطوقة هو قوله (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يُعلّمه بشر ولسان الذي يُلحدون إليه أعجمي).

فالقرآن هنا يتحدث عن الآية التي تُنطق باللسان، وليس الآية بمعنى المعجزة أو القوانين الطبيعية. وليس هناك أي مقام خاص لبعض الآيات، فالآيات جميعها في نفس المقام لأنها جميعاً كلام الله، كما يقول الشيوخ. وإذا بدل الله آية بآية أخرى وألغى الحكم بالآية الأولى ووضع مكانها آية أخرى، أليس هذا تغييراً لكلام الله؟ والذي يحيرنا أكثر أنه يقول في نفس السورة، بعد أن غير الآيات: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها) (البقرة 106). فإذا كان سوف يأتي بآية مثلها، لماذا نسخها في المقام الأول؟

ويستمر الشيوخ في غيهم واتهام الآخرين بالجهل، فيقولون: (((أما الآيتان (لا مبدل لكلماته) و(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) وقد تقدم ذكرهما فى الجدول السابق. هاتان الآيتان بريئتان من التناقض براءة قرص الشمس من اللون الأسود: فآية الكهف (لا مبدل لكلماته) معناها لا مغير لسننه وقوانينه فى الكائنات. وهذا هو ما عليه المحققون من أهل العلم ويؤيده الواقع المحسوس والعلم المدروس. وحتى لو كان المراد من " كلماتـه " آياته المنـزلة فى الكتاب العـزيز "القرآن" فإنه ـ كذلك ـ لا مبدل لها من الخلق فهى باقية محفوظة كما أنزلها الله عز وجل ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها))) انتهى.

وكالعادة، حاول الشيوخ تمويه الحقيقة فبتروا الآية من سورة الكهف، والآية تقول (وأتلُ ما أوحي إليك من ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا). فكلمة "لا مبدل" جاءت بعد التلاوة، أي بعد أن قال له (وأتل ما أوحي إليك). ولا أظن أن إنسان عاقل يمكن أن يقول إن الكلمات هنا مقصود بها سنن الطبيعة، فمحمد لم يكن يتلو سنن الطبيعة وإنما يتلو الآيات التي أتى بها جبريل، كما قال.

وحتى إذا كان المقصود من "الآيات" هو سنن الله في الكائنات، فنحن نستطيع الآن تغيير بعض سننه في الكائنات. فسنة الحياة تقول لابد أن يجامع ثور بقرةً حتى ينتج عن هذا اللقاء عجل صغير. ولكن نحن الآن بإمكاننا أن نستنسخ عجل صغير من خلية واحدة من بقرة دون أن يمسها ثور. وقد نجح العلماء الحقيقيون في خلق خلية في المختبر لا تختلف عن الخلايا الحية الأخرى، وهذا أول الطريق، وسوف يخلقون خلايا أخرى كثيرة في المستقبل، وربما يخلقون جراثيم ومخلوقات أخرى. ومن سنن الكون أو آيات الله، يقول الله في القرآن (ونقر في الأرحام ما نشاء) (الحج 5)، ونحن الآن نستطيع أن نقر في الأرحام ما نشاء. فإذاً سنن الله أو آياته يمكن تغييرها، وليس كما يقول الشيوخ: "لا يستطيع أحد أن يغير سنن الله فهي باقية محفوظة كما أنزلها الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها."

وقد تنازل الشيوخ بعض الشيء وقالوا: (وحتى لو كان المراد من " كلماتـه " آياته المنـزلة فى الكتاب العـزيز " القرآن " فإنه ـ كذلك ـ لا مبدل لها من الخلق فهى باقية محفوظة كما أنزلها الله عز وجل) انتهى.

فكلمات الله كما نعرفها قد غيرها الله عدة مرات، وغيرها أصحاب محمد مرات عديدة وقرءوا القرآن قراءات بها كثير من الاختلاف بين الآيات.

فمثلاً (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ) (القصص 15) قرأها سيبويه (فاستعانه الذي من شيعته)، لأن الحروف لم تكن منقطة. وكذلك ( بل الذين كفروا في عزة وشقاق) (سورة ص 2)، قرأها بعضهم (في غرة وشقاق). وكذلك ( لتكون لمن خلفك آية) قرأها ابن مسعود وغيره (لتكون لمن خلقك آية). وفي سورة المعارج (تعرج الملائكة والروح إليه) قرأها ابن مسعود (يعرج الملائكة والروح إليه) على أساس أن الملائكة ليست إناثاً حتى نقول تعرج. والقرآن نفسه كان قد نفى الأنثوية عن الملائكة وقال عن المشركين إنهم يسمون الملائكة أسماء الأنثى (إن الذين لا يؤمنون ليسمون الملائكة تسمية الأنثى) (النجم 27)، وقال لهم محمد في الحديث "ذكرّوا الملائكة ولا تؤنثوهم" (القرطبي في شرح الآية 1-4 من سورة المعارج)، ولذلك قرأ ابن مسعود (يعرج الملائكة). فسواءً كانت كلمات الله هي قوانين الطبيعية أو كلماته المنطوقة فكلاهما يمكن تغييره، وقد غيرهما البشر مراراً وتكراراً.

ثم استمر شيوخ الأزهر وقالوا: ((أما آية البقرة: (ما ننسخ من آية ) فالمراد من الآية فيها المعجزة ، التى يجريها الله على أيدى رسله. ونسخها رفعها بعد وقوعها. وليس المراد الآية من القرآن ، وهذا ما عليه المحققون من أهل التأويل. بدليل قوله تعالى فى نفس الآية: (ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير )) انتهى.

نعم عرفنا أن الله (إنْ وُجد) على كلٍ شيء قدير، ولكن متى أتى بمعجزة للأنبياء السابقين ثم رفعها. وكيف يرفع مثلاً معجزة شق البحر الأحمر وعبور بني إسرائيل وإغراق فرعون وجنوده (إذا كانت قد حدثت) بعد أن عبر العبرانيون البحر ثم رجع البحر كما كان؟

هل يشق الله البحر مرة أخرى ويرجع بني إسرائيل إلى مصر ويُحيي فرعون؟ أرجو من شيوخ الأزهر أن يحترموا عقول الناس حتى وإنْ كانوا لا يحترمون عقول بعضهم البعض.

ثم يتحفنا الشيوخ بأغلى دررهم فيقولون: (((أما الآيتان الأخيرتان الواردتان فى الجدول ، وهما آية الحجر: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وآية الرعد: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) فلا تعارض بينهما كذلك ؛ لأن الآية الأولى إخبار من الله بأنه حافظ للقرآن من التبديل والتحريف والتغيير ، ومن كل آفات الضياع وقد صدق إخباره تعالى ، فظل القرآن محفوظاً من كل ما يمسه مما مس كتب الرسل السابقين عليه فى الوجود الزمنى ، ومن أشهرها التوراة وملحقاتها. والإنجيل الذى أنزله الله على عيسى عليه السلام. أما الآية الثانية: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) فهى إخبار من الله بأنه هو وحده المتصرف فى شئون العباد دون أن يحد من تصرفه أحد. فإرادته ماضية ، وقضاؤه نافذ ، يحيى ويميت ، يغنى ويفقر ، يُصحُّ ويُمْرِضُ ، يُسْعِد ويُشْقِى ، يعطى ويمنع ، لا راد لقضائه ، ولا معقب على حكمه (لا يُسأل عما يفعل وهم يُسـألون ) فأين التناقـض المزعوم بين هاتين الآيتين يا ترى ؟ التناقض كان سيكون لو ألغت آية معنى الأخرى. أما ومعنى الآيتين كل منهما يسير فى طريقٍ متوازٍ غير طريق الأخرى ، فإن القول بوجود تناقض بينهما ضرب من الخبل والهذيان المحموم ، ولكن ماذا نقول حينما يتكلم الحقد والحسد ، ويتوارى العقل وراء دياجير الجهالة الحاقدة ؟ نكتفى بهذا الرد الموجز المفحم ، على ما ورد فى الجدول المتقدم ذكره.))) انتهى.

أولاً يجب على شيوخ الأزهر أن يكونوا أمناء مع أنفسهم ولا يبخسوا الناس أشياءهم. فالذكر لا يعني القرآن فقط. فهاهو القرآن يقول لقوم نوح (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا لعلكم ترحمون) ( الأعراف 63). ويقول لقوم هود (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون) (الأعراف 69). ويقول لمحمد (وما أرسللنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فأسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (الأنبياء 7). وأهل الذكر في زمن محمد كانوا اليهود الذين نزل عليهم الذكر قبل القرآن ولذلك نصح الله نبيه أن يسألهم عن الأنبياء السابقين وعن رسالاتهم. فنرى هنا أن الذكر لا يعني القرآن فقط، بل كل الرسالات السماوية. فإذا قال الله إنه أنزل الذكر وإنه له لحافظ، فهذا يعني أنه حفظ التوراة والإنجيل من التحريف، ولكن مع ذلك يصر شيوخ الأزهر أن التوراة والإنجيل محرفتان. وهذا في حد ذاته يُثبت أن قرآنهم ليس من عند الله لأن الله لم يفِ بكلمته ويحفظ الذكر الذي في التوراة والإنجيل. أما التناقض فواضح في أنه قال إنه نزل الذكر وإنه له لحافظ وفي نفس الوقت يقول (يمحو الله ما يشاء ويُثبّت) وقد ذكر السيوطي في الإتقان أنّ مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لقوم ذات يوم "اخبروني بآيتين في القرآن لم يُكتبا في المصحف، فلم يخبروه وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك، فقال مسلمة: إنّ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون، والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرةِ أعين جزاءً بما كانوا يعملون") (الإتقان في علوم القرآن، ج2، 25، نقلاً عن الناسخ والمنسوخ لهبة الله بن نصر البغدادي، ص 31). فإذاً الله قد محا هذه الآية من القرآن، وهذا يُثبت أن كلام الله يتغير. وإذا كان لم يمحها، فإذاً القرآن ناقص ومحرّف لأن هذه الآية في نظمها لا تختلف عن آيات القرآن العادية وهي غير موجودة بالمصحف الذي بين أيدينا. وكذلك تغيب عن المصحف سورة الحفد والرفد والمعروفة.

وكان الشيوخ كرماء في رددوهم على الملحدين، فأضافوا هذا القول (((وهناك شبهة أخرى يمكن سردها بإيجاز:

1- إنهـم توهـموا تناقضـاً بين قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) (السجدة 5). وبين قوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) (المعارج 4). وفى عبارة شديدة الإيجاز نرد على هذه الشبهة الفرعية ، التى تصيدوها من اختلاف زمن العروج إلى السماء ، فهو فى آية السجدة ألف سنة وهو فى آية المعارج خمسون ألف سنة ، ومع هذا الفـارق العظيم فإن الآيتين خاليتان من التناقض. ولماذا ؟ لأنهما عروجان لا عروج واحد ، وعارجان لا عارج واحد. فالعارج فى آية السـجدة الأمر ، والعـروج عروج الأمر ، والعارج فى آية المعارج هم الملائكة والعروج هو عروج الملائكة. اختلف العـارج والعـروج فى الآيتين. فاختلف الزمن فيهما قصـراً أو طولاً. وشرط التناقض ـ لو كانوا يعلمون ـ هو اتحاد المقام))) انتهى.

أولاً: ما هو الأمر الذي يدبره الله من السماء؟

أختلف شيوخ الإسلام في تعريفه، فقال ابن عباس: هو القضاء والقدر، وقيل نزول الوحي مع جبريل، وقيل يدبر أمر الدنيا أربعة: جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل. جبريل موكل بالريح والجنود، ميكائيل موكل بالقطر والماء، ملك الموت بقبض الأرواح وإسرافيل ينزل بالأمر عليهم. وهذا هو الأمر الذي يدبره الله من السماء إلى الأرض في ألف سنة مما نعد. ثم يعرج هذا الأمر إليه في يوم كان مقداره ألف سنة. فهذا الأمر الذي يدبره الله في السماء وينزله إلى الأرض، سواءً أكان القدر أو الوحي، يعرج إليه في يوم مقداره ألف سنة مما نعد. وكيف يعرج هذا الأمر إليه بهذا البطء؟ أليست الملائكة هي الرسول بين السماء والأرض؟ فعروج الأمر يعني في الواقع عروج الملائكة.

ثانياً: الروح هو جبريل حسب قول القرآن (نزل به الروح الأمين) (الشعراء 193).

فإذاً الملائكة أو إسرافيل ينزل بالأمر إلى بقيتهم في ألف سنة، ثم يصعد جبريل ومكائيل إلى السماء في يوم مقداره خمسين ألف سنة. كيف نزل جبريل في لمح البصر ليخبر محمد أن الله زوجه زينب بنت جحش مباشرةً بعد أن طلقها زيد؟

فيبدو أن جبريل عندما ينزل من السماء تساعده الجاذبية الأرضية فينزل في لمح البصر، ولكن عندما يعرج إلى السماء تعمل الجاذبية عكسه فيكون معراجه في خمسين ألف سنة مما نعد. وحقيقة الأمر أنه ليس هناك أي اختلاف في عروج الملائكة وعروج الأمر لأن الأمر لا يعرج بنفسه إنما تحمله الملائكة، ومنهم جبريل. فكفانا أيها الشيوخ من بهلوانياتكم وانظروا من منا في دياجير الظلام.

-3-

خرّف رجال الأزهر تخريفاً كثيراً في جوابهم على الشبهة رقم 9، ألا وهي الناسخ والمنسوخ، فقالوا: (النسخ فى اللغة هو الإزالة والمحو ، يقال: نسخت الشمسُ الظلَّ ، يعنى أزالته ومحته ، وأحلت الضوء محله. ثم تطورت هذه الدلالة فأصبح النسخ يطلق على الكتابة ، سواء كانت نقلاً عن مكتوب ، أو ابتدأها الكاتب بلا نقل. والنُّساخ أو الوراقون هم جماعة من محترفى الكتابة كانوا ينسخون كتب العلماء ينقلون ما كتب فيها فى أوراق جديدة فى عدة نسخ ، مثل طبع الكتب الآن) انتهى.

إلى هنا وقولهم متزن ويمكن أن نقبله رغم أن أهل القرآن (الشيخ أحمد صبحي منصور) وهو شيخ أزهري سابقاً، يجزم جزماً قاطعاً أن النسخ تعني الكتابة ولا تعني الإلغاء.

ويستمر شيوخ الأزهر فيقولون: (أما النسخ فى الشرع فله عدة تعريفات أو ضوابط ، يمكن التعبيرعنها بالعبارة الآتية: "النسخ هو وقْفُ العمل بِحُكْمٍ أَفَادَه نص شرعى سابق من القرآن أو من السنة ، وإحلال حكم آخر محله أفاده نص شرعى آخر لاحق من الكتاب أو السنة ، لِحكمة قصدها الشرع ، مع صحة العمل بحكم النص السابق ، قبل ورود النص اللاحق. والنسخ موجود بقلة فى القرآن الكريم ، مثل نسخ حبس الزانيات فى البيوت حتى الموت ، وإحلال الحكم بالجلد مائة والرجم حتى الموت محل ذلك الحبس) انتهى. وأضاف الشيوخ في المراجع شرحاً لهذه الجُمل، فقالوا: (هذا التعريف راعينا فيه جمع ما تفرق فى غيره من تعريفات الأصوليين مع مراعاة الدقائق والوضوح. الجلد ورد فى القرآن كما سيأتى. أما الرجم فقد ورد قوليا وعمليا فى السنة ، فخصصت الجلد بغير المحصنين.) انتهى. وسوف أبيّن لاحقاً عدم مصداقية هذا القول.

أولاً نبدأ بتعريفهم للنسخ الشرعي حيث قالوا " النسخ هو وقْفُ العمل بِحُكْمٍ أَفَادَه نص شرعى سابق من القرآن أو من السنة ، وإحلال حكم آخر محله" انتهى.

هل كل نسخ في القرآن جاء بعد الحكم المنسوخ؟

هناك آيات ناسخة جاءت في الترتيب قبل الحكم الذي ينوي مؤلف القرآن نسخه. فمثلاً الآيتان اللتان ذكرهما الشيوخ (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصيةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج) (البقرة 240)

و (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) (البقرة 234).

فالآية الأخيرة نزلت أولاً وجعلت العِدة أربعة أشهر وعشرة أيام. ثم جات الآية 240 من نفس السورة لتقول إن العدة سنة كاملة. ولكن لسببٍ ما أصبحت الأولى ناسخةً للتي أتت بعدها. وهذا طبعاً يعكس منطق الأشياء كلياً ويوحي لنا أحد ثلاثة احتمالات: الاحتمال الأول هو أن الله لم يحكّم آياته كما قال واختلط عليه الأمر.

الاحتمال الثاني هو أن جبريل لم يحفظ الآيات كما أعلمه الله،

والاحتمال الثالث هو أن محمد هو مؤلف القرآن وقد سها كما يسهو جميع البشر وخلط بين عادات الجاهلية وبين رسالته لأن عدة المتوفي عنها زوجها كانت سنة كاملة في الجاهلية. فعلى الشيوخ أن يختاروا أخف الاحتمالات ضرراً لهم.

والغريب أن الشيوخ بعد أن اعترفوا أن هناك نسخاً في الآيتين المذكورتين، عللوا ذلك برحمة الله وتربية المجتمع، فقالوا (وحكمة التشريع من هذا النسخ ظاهرة هى التخفيف ، فقد استبعدت الآية الناسخة من مدة العدة المنصوص عليها فى الآية المنسوخ حكمها ثمانية أشهر تقريباً ، والمعروف أن الانتقال من الأشد إلى الأخف ، أدعى لامتثال الأمر ، وطاعة المحكوم به.. وفيه بيان لرحمة الله عز وجل لعباده. وهو هدف تربوى عظيم عند أولى الألباب.) انتهى.

وغريب منطق الشيوخ هنا. الله ينزل الآية رقم 234 التي تقول إن العِدة أربعة شهور وعشرة أيام، ثم بعد خمس آيات يأتي بآية زائدة لا فائدة منها تشريعياً ولا تعليمياً للمجتمع وهي الآية 240، ويقول إن العدة سنة كاملة، وتنسخ الآية الأولى الآية الثانية حتى قبل أن تنزل. فلماذا انزلها الله وهو يعلم أنه قد نسخها قبل أن تنزل؟

وأين هو الانتقال من الأشد إلى الأخف؟

بل بالعكس هو انتقل من الأخف إلى الأشد. وأين البيان لرحمة الله لعباده؟

وفي بعض الأحيان نجد الآية الناسخة تعقب الآية المنسوخة في نفس السورة. فمثلاً في سورة المجادله، يقول الله للمؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقةً ذلك خيرٌ لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم (المجادلة 12).

فعندما كان محمد بالمدينة في أول عهده وكان فقيراً طلب من المؤمنين الذين يأتون إليه ليسمروا معه أو يسألونه عن الدين، أن يقدموا له صدقةً. ولكنّ المؤمنين لم يكونوا بذلك السخاء المتوقع منهم، فأبوا أن يقدموا له الأموال. والنتيجة أن الآية التي أتت مباشرةً بعد ذلك نسخت، أي ألغت الصدقة وقت المناجاة (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقاتٍ فإذ لم تفعلوا تاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون) (المجادلة 13).

فاكتفى محمد بالطاعة بدل الصدقة. فأي إله ذلك الذي خلق القرآن قبل أن يخلق العالم وحفظه في لوح محفوظ تحت عرشه، لا يستطيع أن يعرف إذا كان المؤمنون سوف يدفعون الصدقات لمحمد أم لا، فاضطر أن ينسخ هذه الآية بالآية التي تليها؟

أليس هذا من تأليف محمد نفسه؟

ثم أن الشيوخ قد قالوا عن النساء اللاتي يأتين الفاحشة (الجلد ورد فى القرآن كما سيأتى. أما الرجم فقد ورد قوليا وعمليا فى السنة ، فخصصت الجلد بغير المحصنين)، فالقرآن الذي حفظه الله في اللوح المحفوظ بلايين السنين (13.7 بليون سنة) وحكّم آياته لدرجة أن الشيوخ يقولون "محكم التنزيل" عندما يتحدثون عن القرآن، ومع ذلك يتخبط رب القرآن في حكم الزانية فيقول أحبسوهن في البيوت حتى الموت، ثم يغير رأيه ويقول أجلدوهن.

ثم يأتي البخاري بحديث عن أبي هريرة يقول إن اليهود بالمدينة أتوا بامرأة ورجل قد زنيا وسألوا محمد أن ينفذ فيهم حكم السماء، فرجمهما محمد ولذلك أصبح عقاب الزنا الرجم للمتزوجين؟

ألا يغضب هذا الإله لنفسه بعد أن بذل كل هذا الجهد في حفظ القرآن ونسخ بعضه، ثم يأتي محمد ويرجم اليهودية وبذا يُلغى حكم الله؟ شيوخ الإسلام لا يملون من ترديد أن الإسلام يحترم العقل ويشجع على التدبر. فما دام الأمر كذلك ألا يتدبر الشيوخ هذه القصة الواهية التي ألغت محكم التنزيل؟

اليهود لم يصدقوا برسالة محمد، وهم كانوا قد عاشوا في المدينة حتى من قبل أن يولد جد محمد، ولهم رهبانهم ودينهم الذي عجز الاحتلال الروماني عن إثنائهم عنه، وعجز كذلك محمد أن يثنيهم عنه وفضّل بنو قريظة السيف على تبديل دينهم، فهل يُعقل أن يأتوا برجل وامرأة منهم لمحمد ليحكم فيهم؟

ما هو السبب الذي يجعلهم يحضرون الرجل والمرأة الزانيين لمحمد ليحكم عليهم؟ وماذا فعلوا في الذين زنوا من قبل هذا الزوج بمئات السنين؟ هل قالوا لهم "روحوا في طريقكم يهوه يساعدكم"؟ وإذا كان الغرض اختبار محمد، ألم يكن كافياً أن يسألوه عقاب الزاني والزانية سؤالاً شفهياً فيخبرهم بالجواب؟ هل كان لابد من البيان بالعمل؟

وقصة البخاري هذه عن اليهودي واليهودية مأخوذة من قصة لا يصدقها عقل طفل، ناهيك عن شيوخ الإسلام. رُوي عن عروة بن ميمون الأودي قال قيل له اخبرنا بأعجب شيء رأيته في الجاهلية، قال: (رأيتُ الرجم في غير ابن آدم. إن أهلي أرسلوني في نخلٍ لهم أحفظها من القرود، فبينا أنا يوماً بالبستان إذ جاء القرود فصعدت نخلةً فتفرقت القرود فاضطجعوا، فجاء قرد وقردة فاضطجعا فأدخلت القردة يدها تحت القرد فاستثقلا نوماً فجاء قردٌ فغمز القردة فسلت يدها من تحت القرد فذهبت معه فأصاب منها القرد، ثم رجعت القردة إلى القرد فذهبت تُدخل يدها في المكان الذي كانت فيه فانتبه القرد فقام فشم دبرها فصاح صيحةً فاجتمعت القردة فقام واحد منهم كهيئة الخطيب، فوجهوا في طلب القرد فجاءوا به بعينه وأنا أعرفه، فحفروا لهما فرجموهما) (تاريخ دمشق لابن عساكر، ص 417، وكذلك فتح الباري، شرح صحيح البخاري، للعسقلاني، ج7، باب القسامة في الجاهلية، وفيض القدير، شرح الجامع الصغير للإمام المناوي، ج3، حديث 2924). كل هؤلاء الشيوخ بما فيهم البخاري، صدقوا هذه القصة وتسببوا في نسخ صريح القرآن. لم يخطر ببال واحد منهم أن يسأل من الذي عقد قران ذلك القرد على القردة حتى تكون زوجته ويحق عليها الرجم، إذا كانت القرود قد اتبعت ملة موسى وأباحت الرجم. وفي الغالب أن القصة جاءت توكيداً لقصة القرآن التي تقول إن الله مسخ بعض أفراد اليهود إلى قردة وخنازير. وبما أن القرود كانت بشراً يهوديا قبل المسخ، لا بد أنهم احتفظوا بدينهم وهم قرود.

ويستمر شيوخ الأزهر، فيقولون (((أما القسم الثانى ، فقد ذكروا فيه آيات على أن فيها نسخاً وهى لا نسخ فيها ، وإنما كانوا فيها حاطبى ليل ، لا يفرقون بين الحطب ، وبين الثعابين ، وكفى بذلك حماقة. وها نحن نعرض نموذجين مما حسبوه نسخاً ، وهو أبعد ما يكون عن النسخ.

النموذج الأول:

(لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى) (البقرة 256). (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (التوبة 29).

زعموا أن بين هاتين الآيتين تناسخاً ، إحدى الآيتين تمنع الإكراه فى الدين ، والأخرى تأمر بالقتال والإكراه فى الدين وهذا خطأ فاحش ، لأن قوله تعالى (لا إكراه فى الدين) سلوك دائم إلى يوم القيامة. والآية الثانية لم ولن تنسخ هذا المبدأ الإسلامى العظيم ؛ لأن موضوع هذه الآية " قاتلوا " غير موضوع الآية الأولى: (لا إكراه فى الدين))) انتهى

شيوخ الأزهر فلقوا رؤوسنا بثوابت الإسلام التي ورثوها من السلف الصالح، فتعالوا نقرأ ما قاله السلف الصالح عن آية (لا إكراه في الدين). يقول القرطبي في تفسيره للآية: (اختلف العلماء في هذه الآية على ستة أقوال، الأول: قيل إنها منسوخة لأن النبي قد أكره العرب على الإسلام وقتلهم ولم يرض منهم إلا الإسلام. قال سلمان بن موسى قال: نسختها (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) التوبة 73. ورُوي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين.

الثاني أنها غير منسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصةً وأنهم لا يُكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين يُكرهون هم أهل الأوثان. هذا قول الشعبي والحسن والضحاك.

والثالث هو رأي ابن عباس الذي قال إنها نزلت في الأنصار لأن نساءهم اللاتي لا يعيش لهن ولد كن إذا ولدت إحداهن مولوداً جديداً كانت تهوده. ولما أجلى النبي يهود بني النضير عن المدينة أراد صبيان العرب المتهودون أن يذهبوا معهم وحاول أهلهم منعهم، فنزلت الآية. والقول الرابع أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا، وإن كانوا مجوساً أو وثنيين يُجبرون على الإسلام) انتهى.

فإذاً غالبة السلف الصالح قالوا إن الآية منسوخة، وحتى الأقلية الذين قالوا إنها غير منسوخة، قالوا لذلك بالنسبة لأهل الكتاب، وأكدوا أن المجوس والوثنيين يُجبرون على الإسلام.. فإذاً هناك تضاد بين لا إكراه في الدين وبين آيات القتال. والدليل أن كل الشيوخ الحاليين يؤمنون بأنها منسوخة هو موقفهم من المسلم المرتد، الذي يتفقون على قتله. فإذا لم يكن هذا إكراهاً في الدين، ما هو الإكراه؟

ويستمر رجال الأزهر فيقولون: (((النموذج الثانى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) (البقرة 219). (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) (المائدة 90). والآيتان لا ناسخ ولا منسوخ فيهما. بل إن فى الآية الثانية توكيداً لما فى الآية الأولى ، فقد جاء فى الآية الأولى: " فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " ثم أكدت الآية الثانية هذا المعنى: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) فأين النسخ إذن ؟ أما المنافع فى الخمر والميسر ، فهى: أثمان بيع الخمر ، وعائد التجارة فيها ، وحيازة الأموال فى لعب الميسر " القمار " وهى منافع خبيثة لم يقرها الشرع من أول الأمر ، ولكنه هادنها قليلاً لما كان فيها من قيمة فى حياة الإنسان قبل الإسلام ، ثم أخذ القرآن يخطو نحو تحريمها خطوات حكيمة قبل أن يحرمها تحريماً حاسماً ، حتى لا يضر بمصالح الناس.))) انتهى

وكان من الممكن لرجال الأزهر أن يروا التعارض الفاضح في آيات القرآن عن الخمر لو كانوا نزيهين مع أنفسهم وأتوا بآيات سورة النحل التي تقول (وإنّ لكم في الأنعام لعبرةً نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين. ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سَكرَاً ورزقاً حسناً إنّ قي ذلك لآية لقوم يعقلون) (النحل 66، 67).

وحسب السياق التاريخي فإن سورة النحل مكية وسبقت سورة البقرة ثم سورة النور المدنيتين. وبما أن مكة لم يكن بها نخيل أو أعناب، كانت آيات سورة النحل عبارة عن عربون ليهود المدينة لتشجعهم على اتباع محمد. والعربون قال لهم فيه (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سَكرَاً ورزقاً حسناً إنّ قي ذلك لآية لقوم يعقلون). فمحمد هنا يقول لهم من هبات الله عليكم أنه جعل لكم النخيل والأعناب تتخذون منه خمراً مسكراً ورزقاً حسناً، وإنّ في ذلك لآيةٍ لقوم يعقلون. فالخمر هنا كان من تسخير الله لهم ليتخذوا منه رزقاً حسناً وسكراً.

فما الذي تغير عندما وصل محمد إلى المدينة، وفجأة أصبح الخمر المسخر من الله، فيها أثم كبير، بل أن إثمها أكبر من نفعها؟ الشيء الوحيد الذي تغير هو أن اليهود لم يُهبّوا لأخذ محمد بالأحضان ويؤمنوا به. فجاءت آية البقرة إنذاراً لهم. ثم تلتها سورة النور التي قال فيها إنما الخمر والميسر رجس من عمل الشيطان. كيف أصبحت الخمر رجس من عمل الشيطان وكانت قبل ذلك من نِعم الله على العباد يتخذون منها سَكراَ ورزقاً حسناً؟

إذا لم يكن هذا تعارضاً ونسخاً، فلا ندري ما هو النسخ والتعارض.

أما قول شيوخ الأزهر (أما المنافع فى الخمر والميسر ، فهى: أثمان بيع الخمر ، وعائد التجارة فيها ، وحيازة الأموال فى لعب الميسر " القمار " وهى منافع خبيثة لم يقرها الشرع من أول الأمر ، ولكنه هادنها قليلاً لما كان فيها من قيمة فى حياة الإنسان قبل الإسلام ، ثم أخذ القرآن يخطو نحو تحريمها خطوات حكيمة قبل أن يحرمها تحريماً حاسماً ، حتى لا يضر بمصالح الناس)، فقول أقل ما يقال عنه إنه قول غير أمين. لأن منافع الخمر أكثر من ذلك بكثير، فهي تُفرح الإنسان وتنسيه همومه، وقبل اكتشاف المخدر العم كانت العمليات الجراحية تُجرى للمريض تحت تأثير الخمر الذي تقدمها له المستشفى. وفي العصر الحديث هذا فإننا نستعمل الكحول في تطهير الجروح وفي علاج المرضى الذين يشربون ماء الراديتر Radiator السيارات إذا تاهوا في الصحراء. وكذلك نستعملها في علاج ما يُعرف ب Fat Embolism وهي حالة خطيرة من مضاعفات كسور العظام الكبيرة مثل الفخذ أو الحوض، عندما يتسرب النخاع من العظم ويدخل الدم ويستقر في الرئة. ففوائد الخمر تفوق إثمها الذي فّرض مؤخراً بعد أن كانت رزقاً حسناً. وقولهم إن الشارع اتخذ في تحريم الخمر خطوات حكيمة حتى لا يضر بمصالح الناس، فكذلك قول تعوزه الأمانة أو فهم اقتصاد جزيرة العرب قبل الإسلام. فتجارة المرابحة، وبيع الأجل، والقروض الربحية (الربا) كانت هي حجر الأساس للاقتصاد. ولم يتورع محمد عن تحريم الربا وكل أنواع البيوع المهمة بجرة قلم، وقضى على تجارة مكة. فالربا كان أهم من بيع الخمر. فلماذا لم يتدرج في منع الربا وبيع الغرر وغيرها كما تدرج في الخمر؟ السبب الرئيسي هو أن اليهود كانوا بنوك ذلك الوقت، فكانوا يمنحون القروض بالفائدة ويتحكمون في تجارة وتصنيع الذهب والفضة وتجارة التمور. وعندما رفضوا اتباع محمد قرر تدميرهم اقتصادياً بمنع الربا وكل أنواع البيوع الأخرى، قبل أن يجليهم من المدينة ويقتل بعضهم ويستولي على متاجرهم ومزارعهم وبيوتهم.

فالاقتصاد المحمدي أتى بكارثة للعالم العربي ما زلنا نعاني منها، والوحيدون الذين استفادوا من التشريع الإسلامي في تحريم الربا هم الشيوخ الذين يعملون مستشارين شرعيين للبنوك الإسلامية ومؤسسات الاستثمار الإسلامية التي تنهب أموال المغتربين.

-4-

حاول رجال الأزهر الرد على الشبهة 27، وهي أن القرآن يستعمل الضمائر في غير مكانها المتعارف عليه، مما يؤدي إلى تشويش المعنى في ذهن القاريء أو السامع. ولكن ردهم كان كعصاة موسى التي انقلبت ثعبانا يتلوّى، وهي لم تنقلب في الحقيقة وإنما أعتقد الناظرون أنها فعلت. والأمر كله كان سحراً وخداعاً

منشأ الشبهة: هي الآية التي تقول:

(إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً ) (الفتح 8-9).

يقول لنا الشيوخ في أصل هذه الشبهة التي قال بها المكذبون: (وموطن هذه الشبهة ـ عندهم ـ هو الضمائر الثلاثة فى: "تعزروه " ـ " توقروه " ـ " تسبحوه ". ذكروا هذا ، ثم قالوا: "وهنا ترى اضطراباً فى المعنى ، بسبب الالتفات من خطاب محمد إلى خطاب غيره ، ولأن الضمير المنصوب فى قوله " وتعزروه وتوقروه " عائد على الرسول المذكور آخرًا. وفى قوله " وتسبحوه " عائد على اسم الجلالة المذكور أولاً. هذا ما يقتضيه المعنى ، وليس فى اللفظ ما يعينه تعيينًا يزيل اللبس. فإن كان القول: وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً عائدًا على الرسول يكون كفرًا لأن التسبيح لله فقط ، وإن كان القول " وتعزروه وتوقروه وتسبحوه " عائدًا على الله يكون كفرًا ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج لمن يعزره ويقويه") انتهى.

هذه هي الشبهة كما عرضها المشككون، وهو عرض واقعي لأن تركيب الجملة بكل هذه الضمائر فعلاً يخلق تشويهاً في المعنى. ولنبدأ بالخطاب في الآية: الله هنا يخاطب محمد ويقول له (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا)، والكلمة التي تلي ذلك تقول "لتؤمنوا"، فهو هنا ترك خطاب محمد وخاطب الأعراب جميعهم. وهذا ليس من البلاغة في شيء.

وكانت الجملة سوف تكون أوضح وأبلغ لو قال "إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا ليؤمنوا". ولكن لكن الكلمات لم تكن منقطة وقتها، كتب الناسخ فيما بعد "لتؤمنوا".

ولو اعترف الشيوخ بذلك فسوف يكون قرآنهم محرفاً. ولذلك يستعملون عصاة موسى ليوهمونا أن فهمنا خاطيء وهم العارفون.

ثم تنتقل الآية بدون أي توقف أو فاصل لتقول للأعراب (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرةً وأصيلا). وبما أن الواو هو حرف عطف، فإن الكلمات الثلاث معطوفة على بعض. والإشكال الأكبر هو اختيار مؤلف القرآن لكلمات تقبل عدة تفسيرات، مع أنه يقول إنه أنزله قرآناً عربياً مبيناً.

ومن هذه الكلمات التي تقبل عدداً كبيراً من التأويلات هي كلمة "وتعزروه". فما هو معنى هذه الكلمة؟

يقول لسان العرب لابن منظور: (التعزير: ضرب دون الحد لمنع الجاني من المعاودة وردعه عن المعصية. وقيل هو أشد الضرب. وعزّره: ضربه أشد الضرب. والعزر: المنع. والعزر كذلك: التوقيف على باب الدين. وحديث سعد يدل على أن التعزير هو التوقيف على الدين لأنه قال "لقد رأيتني مع رسول الله وما لنا طعام إلا الحُبلة وورق السمّر، ثم أصْبَحَتْ بنو سعدٍ تُعزرّني على الإسلام، لقد ضللتُ إذاً وخاب علمي.")

فأصل التعزير هو الضرب للمنع. وقد حاول المفسرون الإسلاميون تغيير معنى الكلمة في حديث سعد، الذي كان مع رسول الله وتحمل معه الجوع، ثم حاولت قبيلة بني سعد تعزيره، وهوكان يعني منعه وصده عن الإسلام، لأنه يقول في الحديث: "إذاً لقد ضللتُ وخاب علمي." يعني هذا أنه لو استمع لهم لضل وخاب علمه. فإذاً المعنى الواضح للكلمة هنا هو التوقيف والمنع من الدخول في الدين الجديد.

ولكن المسلمين فيما بعد زعموا أن التعزير تعني "التوقير والتعظيم وهو أيضاً التأديب ومنه التعزير الذي هو الضرب دون الحد، كما يقول "مختار الصحاح" لأبي بكر الرازي. ويقول الأصفهاني في "مفردات ألفاظ القرآن": التعزيز: النُصرة مع التعظيم، والتعزير: ضرب دون الحد وذلك يرجع إلى الأول لأن التأديب نُصرة، فمن قمعته عما يضره فقد نصرته.

فلماذا أختار مؤلف القرآن كلمة بهذا القدر من المعاني بدل أن يقول "لتعززوه" وهي تعني لتقووه أي تزيدونه قوةً.

وفي اعتقادي أن الكلمة أصلاً كانت "لتعززوه" وولكن لعدم وجود النقاط على الحروف، خلط الناسخ بين الراء والزاي، ولم يضع نقطة على الزاي، فأصبحت راءً.، وبذلك أصبحت الكلمة "لتعزروه" بدل "لتعززوه".

وقد اختصر صاحب "لسان العرب" بأن قال: (ولو كان التعزير هو التوقير لكان الأجود في اللغة الاستغناء بها، فالنُصرة إذا وجبت، فالتعظيم داخل فيها) انتهى.

فإذاً "تعزروه" لا تعني تعظموه وتقدروه، وإنما تعني تضربونه ضرباً شديداً. وهذا يًثبت أن الكلمات التي اختارها مؤلف القرآن تجعل قرآنه أبعد شيء عن أنه بلسان عربي مبين. ولكن دعونا نقرأ تخاريف رجال الأزهر في هذه الشبهة.

(ونقول لهؤلاء الكارهين لما أنزل الله على خاتم رسله: نحن ـ المسلمين ـ لا نسبح أحداً غير الله ، ولا نعبد أحداً غير الله ، ولا نرفع حاجاتنا إلى أحدٍ غير الله ، ولا نطلب غفران ذنوبنا من أحدٍ غير الله ، ولا نقدم كشف حساباتنا إلى أحد غير الله ، ولا نرجو ولا نخاف أحداً غير الله. والكتاب الذى أنزله الله على خاتم رسله لا لفَّ فيه ولا دوران ، ولا قلق ولا اضطراب ، لا فى مبانيه ، ولا فى معانيه ، ولا فى مقاصده وقيمه ، فمن توهَّم فيه اضطراباً فالاضطراب فى عقله هو ، وفى فهمه هو لا يتعداه إلى كتاب الله ، ولا إلى المؤمنين به) انتهى.

هل هذا رد رجال أذكياء يعرفون ما يتحدثون عنه. نحن نعلم أنهم كمسلمين لا يؤمنون بغير الله ولا يطلبون غفران ذنوبهم من غيره، مع أنهم يرجون أن يتوسط لهم محمد يوم القيامة، فالواسطة هي ما يجيدونه. ولكن كل هذه الخطرفات لا ترد على الشبهة في الآية المذكورة، وهي أن مؤلف القرآن يستعمل الضمائر كما لو كانت صلصة "كيتشب" يرشها على جميع كلمات القرآن. والشيوخ إياهم، بدل أن يفندوا ما قلناه، نحن المشككين، يقولون لنا (والكتاب الذى أنزله الله على خاتم رسله لا لفَّ فيه ولا دوران ، ولا قلق ولا اضطراب ، لا فى مبانيه ، ولا فى معانيه ، ولا فى مقاصده وقيمه ، فمن توهَّم فيه اضطراباً فالاضطراب فى عقله هو ، وفى فهمه هو.). ويا له من ردٍ مفحم.

ولا شك أن رجال الأزهر نفخوا صدورهم استعلاءً عندما جاءوا بردهم النهائي، وقالوا: (((والآية التى وصفوا تركيبها بأنه أدى إلى اضطراب المعنى المؤدى إلى الكفر ، أجلى من الشمس فى رائعة النهار ومرجع الضمائر الثلاثة ، التى اتخذوا منها منشأً لهذه الشبهة محددة ـ عقلاً وشرعاً ـ دون أى التواء.

فالضمير فى " وتسبحوه " عائد على الله قطعاً دون أدنى شك. لأن التسبيح عبادة ، ولم يؤذن الله لعباده أن يعبدوا أحداً غيره:

(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) (يعبدوننى لا يشركون بى شيئاً )

أما مرجع الضمير فى " وتعزروه " فهو الرسول دون خلط أو تشويش.

وأما الضمير فى " وتوقروه " فلا مانع لا عقلاً ، ولا شرعاً أن يكون عائداً على الله ، لأن توقير الله هو إكباره وتعظيمه ، وقد قال نوح لقومه موبخاً لهم (ما لكم لا ترجون لله وقاراً وقد خلقكم أطواراً )

ويجوز أن يكون عائداً على الرسول ، وتوقيره هو احترامه وإنزاله منزلته من التكريم والطاعة.))) انتهى.

وقد تكون الضمائر محددة شرعاً في أذهانهم، أو هكذا خُيل إليهم، ولكنها حتماً غير محددة لا عقلاً ولا لغوياً. فالضمر في لغة العرب يرجع إلى اسم مذكور مباشرةً قبل الضمير. ولذا عندما يقول مؤلف القرآن (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه)، فالضمائر الثلاثة المعطوفة على بعض ترجع للإسم الذي سبقها، وهو "رسوله". وقولهم (فالضمير فى " وتسبحوه " عائد على الله قطعاً دون أدنى شك. لأن التسبيح عبادة ، ولم يؤذن الله لعباده أن يعبدوا أحداً غيره)، قول غير صحيح لأن الله أمر إبليس أن يسجد لآدم، والسجود عبادة. وفي اعترافهم وقولهم إن الضمير الأخير يجوز أن يكون راجعاً إلى الله أو إلى محمد، يُأكد قولنا إن القرآن ليس لساناً عربياً مبيناً، وإلا لما جاز أن تكون ضمائره غير محددة ويجوز للقاريْ أو السامع أن يرجعها لمن يشاء. البلاغة اللغوية تعني إيجاز الكلام وتبيان المقصد بدون أي لف أو دوران. ومن يخاطب الناس بلغة مبهمة قابلة للتأويل لا يمكن أن يكون الله.

ويُثبت لنا رجال الأزهر، دون قصدٍ منهم، أن رب الإسلام إله منحاز، خلق بشراً يتفاوت مستوى الذكاء عندهم، بل يعضهم معوقاً ذهنياً، وما أكثرهم في بلادنا، وأنه أنزل قرآنه على أمةٍ من الأميين الجهلاء، بلسان عربي مبين، ومع ذلك يقول رجال الأزهر: (والخلاصة: القرآن خطاب للعقلاء الأذكياء ، وليس خطاباً للمتغابين أو الأغبياء ، وفى الإنسان حاسة كثيراً ما يعوِّل عليها القرآن فى خطابه ، تستجلى خفايا معانيه ، وتدرك روائع إيماءاته ودقائق أسراره. تلك الحاسة هى الخصائص العقلية ، والملكات الذهنية أو الذوقية المثقفة.) انتهى.

فالإله الذي يخلق أغبياء ويتجاهلهم ولا يخاطبهم بقرآنه، إله متغطرس لا يستحق العبادة. فهو، حسب رد شيوخ الأزهر، أنزل قرآناً للأذكياء فقط الذين حباهم بملكة الخصائص العقلية والملكات الذهنية المثقفة. فكيف توقع الله من العبيد الأميين الفقراء أمثال بلال وعمار بن ياسر وغالبية البدو في صحراء نجد أن يفهموا قرآنه ويؤمنوا به؟

ألا يؤيد قول رجال الأزهر قول الذين قالوا إن الإسلام لم ينتشر بالفهم والإقناع وإنما بقوة السيف؟

وحتى نزيد رجال الأزهر تخبطاً، نورد لهم هنا بعض آيات القرآن التي تحتاج عصاتهم السحرية:

(إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز) (فصلت 41). جملة مبتورة لا يفهم القاريء القصد منها. إنّ الذين كفروا بالذكر، ماذا يحدث لهم. كل الذي يخبرنا به القرآن إنه كتاب عزيز

(يا أيها الذين آمنوا اوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام) (المائدة 1). ما هو الرابط بين الوفاء بالعقود وبهيمة الأنعام التي أُحلت للمؤمنين؟

(فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون) (غافر 77). ماذا يقصد مؤلف القرآن أن يقول في هذه الآية؟

فإما نريك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك. كلام مائع لا يعني شيئاً على الإطلاق. إما نريك بعض العذاب الذي وعدناهم وإما نتوفينك. كل إنسان يعرف أنه سوف يتوفى، فكان الأجدر أن يريه بعض العذاب الذي وعدهم. فهذا مثل قولي لشخص: إما تسافر أو تموت

(وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولا) (الأنفال 44)

فكلمة "ويقللكم" كان من المفروض أن تكون "ويكثركم" لأنه يُري المؤمنين أنّ أعداءهم قليلون، بينما يُري المشركين أنّ أعداد المؤمنين كثيرة. ولذلك كلمة "ويقللكم" هي العكس مما أراد الله قوله.

وهناك الكثير من مثل هذه الآيات، ربما أتعرض لها في مقالٍ منفصل مستقبلاً. أما الآن فأكتفي بهذه الحلقة في الرد على تخاريف رجالات الأزهر لأن بقية رددوهم تستعمل عصاة موسى نفسها ولا تضيف جديداً.