For God so loved the world, that he gave his only begotten Son, that whosoever believeth in him should not perish, but have everlasting life.

الاثنين، ١٠ جمادى الآخرة ١٤٢٨ هـ

تاريخ الإلحاد في الإسلام

1 - مدخل للدراسة والتحليل

حركات الإلحاد قديمة قدم البشرية نفسها، فعلى الرغم من أن الكثير يعتقدون أن الإيمان بوجود عالم الروح وما فوق الطبيعي هو صفة إنسانية تغوص في القدم إلى المجتمعات البشرية البدائية ويعتقدون أن الإلحاد من علامات العصر الحديث، إلا أن هذا المفهوم خاطئ تماما، ففي نفس الوقت الذي كانت فيه البشرية تحاول أن تستعيد العلاقة المفقودة مع الله، وضل البعض في فهم قوي الطبيعة بإحيائها واسقاط الصفات البشرية الطبيعية والفوق طبيعية عليها ونصبوها آلهه، وحاول آخرون اشباع المطلق والمثالي بالبحث عن الإله في صفات مجردة، كانت هناك حركات شبه متمردة، تعلن العصيان على قوي الآلهة وتتحدها.


لعل أول هذه الحركات المسجلة تاريخيا للإلحاد كانت في الهند بالتقريب 1000 قبل الميلاد (ق.م.)، حيث كانت أول علامات الشك في النص المكتوب "
Rig-Veda" : "من يعلم عن يقين؟ من يعلنها هنا؟ متى ولد ومتى تكون هذا الخلق؟ الآلهة خلقت بعد ميلاد هذا الكون. إذن من يستطيع أن يعلم من أين نشأ الكون؟ لا أحد يعلم كيف تكون الخلق ولا هل هو(الإله الأعظم) من صنع العالم أم لا . هو من يفحص الكون من السموات العليا، هو من يعلم، أو ربما هو لا يعلم." ومن هذه الخطوات الأولى في الشك بدأ الإلحاد في الظهور.


وبعد ما يقرب من 500 عام أخري ( 500 ق.م.) ظهرت البوذية، والتي استوحت أفكارها من ال”
Rig-Veda" حيث حاول بوذا (563-483 ق.م.) أن ينقل الفكر من التركيز على الآلهه، والتي كان عددها قد جاوز الآلاف في الهندوسية، إلى التركيز على المعاناه الإنسانية والخلاص منها، فأرجع السبب إلى المعاناه إلى تعلق البشر ورغباتهم، وهي التي تخلق الألم عند عدم تحقق الرغبات، وللتخلص من المعاناه والألم، ينبغي التخلص من الرغبة، والهروب من عجلة القدر الثمانية، وبالتالي الوصول إلى النرفانا، أو اللاتعلق، أو اللارغبة. وفيها يتوحد الإنسان بالكون ويذوب فيه. ولا يخفى أن ذكر الآلهة لم يدخل ضمن البوذية على الإطلاق، وإنما هي فلسفة بشرية بحته، وعندما سئل بوذا عن وجود الله لم يجب، فالبوذية لا تختص بالآلهة بل بالمعانة البشرية وبالتالي لا تحمل أي اجابة عن الله، وهذا ما يصنف في العصر الحديث باللامعرفة أو اللاأدرية "agnosticism"، والموت في البوذية ما هو إلا عنصر في العجلة الثمانية، وكلما يترقي الإنسان في طريق النرفانا عندما يموت يولد من جديد في جسد مختلف أرقى، إلى أن يصل إلى النرفانا فيتخلص من العجلة وإعادة التجسد كلية ويبقى روحا علوية.
وفي نفس العصر تقريبا كانت الفلسفة اليونانية تصول في القارة الأوروبية، ففي حوالي عام 420 ق.م. ظهرت النزعة المادية في اليونان، وبدأ مبدأ الذرات كعنصر أوحد وأساسي للكون في الظهور على يد ديموقريطس "
Democritus"، والذي دفع بنظريته بعيدا، إلى حد أنه ألغى وجود الآلهة في عالم مادي بحت، ويقال أيضا أنه من المؤسسين لعلوم الفلسفة والرياضيات ونظرية المعرفة.


و بحلول القرن الرابع قبل الميلاد (341-270 ق.م.) ظهر في اليونان أبيقور "
Epicurus" والذي يعتبر وبحق أول فيلسوف ملحد ظاهر، وهو الذي أنشأ ولأول مرة "مجادلة الشر" :
"هل الله يريد أن يمنع الشر ولكنه لا يستطيع؟ إذن فهو ليس كلي القدرة.
هل هو قادر على منع الشر ولكنه لا يريد ؟ إذن فهو خبيث وشرير النزعة.
هل هو قادر ويريد منع الشر؟ إذن من أين أتى الشر؟
هل هو غير قادر ولا يريد منع الشر؟ إذن لماذا نطلق عليه إله؟"

و هذا مما قاده بعد ذلك إلى تبني إلهين، أحدهما للخير والآخر للشر، ويقال أنه لم يؤمن في حياة بعد الموت. وربما كان هذا بداية الحركة الفكرية التي قادت ذرادشت في فارس إلى الخروج بديانة الصراع بين إلهين إله الخير "أهور-مزدا" وإله الشر "أهرمن".
و نستطيع أن نقول أنه في أوائل ظهور المسيحية، بدأت النزعات الإلحادية والتعددية (تعدد الآلهة) إلى الاختباء لفترة من الزمن، ولعل الصراعات الدينية بين الطوائف المسيحية، ثم ظهور الإسلام كلاعب على المسرح العالمي وغزوه لمناطق الحضارات القديمة واحتلاله الكامل لفارس وشمال أفريقيا والعراق والشام وتهديده المستمر للأمبراطورية الرومانية الشرقية في القسطنطينية لم يدع أي مساحة من التطور الفكري أو الجدل . فالإلحاد بلا شك هو فكر من أفكار الأقليات، والأقليات لا تزدهر في عصور الحروب والقلاقل بل تختبئ.
ثم ظهرت الحروب الصليبية من أوائل القرن الـ11، واستمرت حوالي القرنين من الزمان في محاولة المسيحية الغربية أسترداد الأراضى المسيحية المقدسة التي أخذها الإسلام قبل ثلاثة قرون من الزمان. وهو نفس العصر الذي بدأ فيه الإلحاد أن يظهر في داخل الحضارة الإسلامية في بغداد بعيدا عن منطقة الصراع الإسلامي الصليبي على حدود الشام، وبدأت الثقافات التي غزاها الإسلام تؤثر في تطوره الفكري...

----------------------------------------



2 - العصر الإسلامي الأول

بدأ الإلحاد في العصر الإسلامي وللغرابة منذ نشأة الإسلام، فإذا اعتبرنا أن الشك هو نوع بدائي من الإلحاد، فأول الملحدين أو الشكاكين في الإسلام هو نبي الإسلام نفسه، فقد كان محمد في بداءة الوحي يشك فيما أنزل إليه "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ" (يونس 94)، وقد إزداد العبء النفسي عليه بعد فتور الوحي عنه خاصة بعد وفاة ورقة بن نوفل القس، فكان يذهب إبى شواهق الجبال يريد أن يلقي بنفسه من فوقها

"..ثم لم ‏ ‏ينشب ‏ ‏ورقة ‏ ‏أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال" (صحيح البخاري : 6467).

 وعلى الرغم من أن النبوءة والشك لا يجتمعان فهذا كان حال محمد نبي الإسلام، ولم ينقذه من الشك إلا البرهان الوحيد الذي ذكرته كتب السيرة والحديث، وهو برهان أفخاذ خديجة زوجته وتأكيدها أن من يأتي محمد هو ملاك لا شيطان لأنه لا يستحي من فخذيها ولكنه يستحي من وجهها، وتلك هي القصة كما كتبتها المراجع الإسلامية:
قال ابن إسحاق : وحدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير : "أنه حدث عن خديجة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال نعم . قالت فإذا جاءك فأخبرني به . فجاءه جبريل عليه السلام كما كان يصنع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة يا خديجة هذا جبريل قد جاءني، قالت قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى ; قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عليها، قالت هل تراه ؟ قال نعم قالت فتحول فاجلس على فخذي اليمنى ; قالت فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس على فخذها اليمنى، فقالت هل تراه ؟ قال نعم . قالت فتحول فاجلس في حجري، قالت فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حجرها . قالت هل تراه ؟ قال نعم قال فتحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها، ثم قالت له هل تراه ؟ قال لا، قالت يا ابن عم اثبت وأبشر فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان" (سيرة بن هشام ج1 : 238، 239)
وهكذا تحول محمد من الشك إلى اليقين، ومن بدايات الإلحاد إلى إيمان النبوة !!!!

***

و لعل من أهم الشخصيات التي أنكرت الدعوة والنبوة وإله الإسلام هو "عبد الله بن سعد أبي سرح" (توفى 659 م)، وكان من كتبة الوحي، وفيه تقول المغازي للواقدي ج2 : 855، 856 :
"وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فربما أملى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سميع عليم فيكتب عليم حكيم فيقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول كذلك الله ويقره . وافتتن وقال ما يدري محمد ما يقول إني لأكتب له ما شئت، هذا الذي كتبت يوحى إلي كما يوحى إلى محمد . وخرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح (أي فتح مكة)" والذي أنقذه هو عثمان بن عفان، أخاه في الرضاعة. وهنا نقف مرة أخرى أمام حقائق غريبة من التاريخ الإسلامي، فكاتب الوحي هو أقرب الناس إلى فم الرسول وقلبه، والمفروض أن يبتعد عن الشك أو إنكار العقيدة، ومرة أخرى يفاجئنا الإسلام باستثناءات مريبة !!

***

لا نستطيع أن ننكر أن الكثير من الشخصيات المرموقة والعوام تمردت أو ألحدت أو شكت في عهد الرسول، وإلا ماذا كانت الحاجة إلى شراء إيمان الناس بالأموال، كما في حالة المؤلفة قلوبهم (التوبة 60)، ومن التاريخ الإسلامي نستطيع أن نؤكد أن هناك الكثير من الذين تشككوا في الدعوة الإسلامية، فما أن توفي الرسول حتى أرتد الكثير من قبائل العرب، وكان على أبي بكر أن يجيش الجيوش ليحارب المرتدين (632م)، وبالتأكيد هناك من القبائل التي أرتدت فقط عن دفع الجزية، ولكن هناك في المقابل من أرتد عن الإسلام كلية، وهذه حادثة غير مسبوقة في تاريخ الأديان أن تجد هذا الإلحاد الجماعي، ومباشرة بعد أنتهاء الدعوة المحمدية (للمزيد إقرأ مختصر السيرة: ص173-176، البداية والنهاية لإبن كثير ج 6 : فصل في تصدي الصديق لقتال أهل الردة ومانعي الزكاة). وهناك قبائل بأكملها أنكرت الإسلام وبالتالي إله الإسلام، ومنها أهل اليمامة تحت قيادة مسيلمة الكذاب (مدعي النبوة)، وأهل البحرين بقيادة المنذر بن النعمان، وقال قائلهم: لوكان محمد نبيا ًما مات، وأهل مهرة بقيادة المصبح أحد بني محارب، وأهل عمان بقيادة ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي، والذي إدعى النبوة أيضا.
***
وبعد فترة القلاقل التي عاشتها الأمبراطورية الإسلامية الوليدة، وما تبع حروب الردة من حروب داخلية على الحكم بين علي بن أبي طالب ومعاوية وظهور الشيعة والخوارج، حكم الأمويون الدولة الإسلامية بقبضة حديدية، وتوسعوا في الغزو، وهنا تلتفت الأنظار إلى إلحاد صريح لبعض الخلفاء الأمويين ومنهم :


1) يزيد بن معاوية (680-683 م) : ثاني الخلفاء الأمويين
هاجم جيش يزيد المدينة، حين رفض أهلها بيعته وقاتل أهلها قليلاً ثم انهزموا فيما سمى بموقعة ( الحرة ) عام 683 م فأصدر قائد الجيش أوامره باستباحة المدينة ثلاثة أيام قيل أنه قتل فيها أربعة آلاف وخمسمائة، وأنه قد فضت فيها بكارة ألف بكر، وقد كان ذلك كله بأمر يزيد إلى قائد جيشه (مسلم بن عقبة) :
ادع القوم ثلاثا فأن أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليها فأبحها ثلاثاً، فكل ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس ).
ولم يكتف مسلم باستباحة المدينة بل طلب من أهلها أن يبايعوا يزيد على أنهم (عبيد) له، يفعل فيهم وفي أموالهم وفي أولادهم ما يشاء، ويرد عليه أحدهم كأنه يلقمه حجراً : (أبايع على كتاب الله وسنة رسوله) . ولا يعيد مسلم القول، بل يهوى بالسيف على رأس العابد الصادق. ويستقر الأمر في النهاية لمسلم، ويصل الخبر إلى يزيد، فيقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
أما من هم أجداده غير بني أمية، فهو يتمنى لو كان أجداده من بني أمية، ممن هزمهم الرسول والمهاجرون والأنصار في بدر، أن يشهدوا ما فعلة بمدينة الرسول والصحابة والأنصار في موقعة الحرة، ويضيف ابن كثير بيتاً يقوله على لسان يزيد:
لعبت هاشم بالملك فلا ملك جاء ولا وحي نزل (البداية والنهاية-ابن كثير ج8، منقول عن كتاب الحقيقة الغائبة لفرج فودة).
فهو لا يؤمن بالرسالة ولا الرسول، ويعتقد أن اللعبة تدخل في إطار السياسة والملك ،لا الدين والوحي.
***
2) عبد الملك بن مروان(683-705 م) : ثالث الخلفاء الأمويين
حكم مدة تقترب من 22 عام، كان فيها مثالا لسياسي البارع، ولكنه يعترف أن القرآن والإسلام لا علاقة لهما بحكمه فقد "قال ابن أبي عائشة : أفضى الأمر إلى عبد الملك، والمصحف في حجره فأطبقه وقال : هذا آخر العهد بك" (تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 217) -من كتاب الحقيقة الغائبة.
***
3) الوليد بن يزيد (743-744 م) : الخليفة التاسع من خلفاء الأمويين
كان أبعد ما يكون عن الأخلاق، وتحكي كتب التاريخ الإسلامي أنه قرأ ذات يوم في المصحف "واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد، من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد" – فدعا بالمصحف فنصبه غرضاً للسهام وأقبل يرميه وهو يقول :
أتوعد كل جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم الحشر فقل يارب خرقني الوليد
وذكر محمد بن يزيد المبرد "النحوي" أن الوليد ألحد في شعر له ذكر فيه النبي وأن الوحي لم يأته عن ربه، ومن ذلك الشعر :
تلعب بالخلافة هاشمي بلا وحي أتاه ولا كتاب
فقل لله يمنعني طعامي وقل لله يمنعني شرابي
عن كتاب الحقيقة الغائبة - فرج فودة - فصل : قراءة جديدة في أوراق الأمويين.
وهو هنا يعيد ما أكده الخليفة الأموي الثاني يزيد بن معاوية ،و وينكر النبوة والرسالة الإسلامية
***
وفي هذه القراءات الثلاثة لخلفاء مسلمين، يتضح مدى تغلغل الشك والإلحاد واللايقينية بين حتى الخلفاء.
وفي الوقت نفسه نستطيع أن نستشف مما سبق ظهور مبكر غير مسبوق للإلحاد والشك في الإسلام منذ المؤسس الأول "محمد بن عبد الله".



----------------------------------------


3 - العصر الإسلامي الوسيط

كما ذكرت في الجزئين الأول والثاني أن الإلحاد هو دين الأقلية، هنا أؤكد أن الإلحاد هو وليد البيئة والثقافة، وهذا ليس معناه أن البيئة هي العامل الأوحد، ولكنها من العوامل الفعالة. كنا قد توقفنا في المقالة السابقة عند الإلحاد الذي ظهر في فلاشات منذ عهد رسول الإسلام ومرورا بالخلافة الأموية. وهنا نكمل القصة في بدايات العصور الوسطى مع قيام الدولة العباسية.
أستمر حكم العباسيين من 750-1258 م، وهذا ما يقرب من 500 عام. لم يكن الحكم العباسي شاملا كل الامبراطورية الإسلامية، بل تميز بالتفكك واللامركزية، ففي بعض الفترات كانت الولايات الإسلامية تحت حكم أسر شبه مستقلة، كالحكم الفاطمي في مصر، وأمتداد الحكم الأموي في الأندلس، وبقي الخليفة العباسي مجرد رمز للخلافة بلا فاعلية، وهذا الجو اللامركزي خلق مساحة من حرية الحركة والفكر. وهذا بالتالي سمح بالتمرد علي القوانين والأصول الاسلامية بدرجة أكبر من العصور السابقة، وفي هذا الجو اللامركزي خرجت التيارات الإلحادية والشاكة، وأنتشر ما سمي على يد الإسلام السني فيما بعد بالذندقة والكفر.
والغريب أن الكثير من المسلمين في محاولة يائسة لإظهار دور الإسلام الحضاري وأثره في الفكر الغربي، يستشهدون بهذه الفترة التي كثرت فيها الترجمة عن الفلاسفة اليونانيين والهنود، ويدعون بأفضلية الإسلام على الحضارة الغربية بما أضافته من ذخائر وترجمات أستغلتها الحضارة الأروبية في بدايات عصر النهضة لتستعيد السبق من جديد. ولكن الجزء المفقود من الحقيقة أن كل الفلاسفة والشعراء والمترجمين في هذا العصر من الزنادقة والكفار والملاحدة، ولا يمكن إضافتهم إلى ما يسمى بالإسلام الحقيقي، وفيما يلي بعض من هؤلاء الفلاسفة وآرائهم، وبعض الشعراء وآرائهم من هذه الحقبة الغنية بالتمرد على صحيح الإسلام :
***
بشار بن برد (710-784 م) :
هو بشار بن برد بن يرجوخ العقيلي بالولاء. أصله من طخارستان (غربي نهر جيحون)، ونسبته إلى امرأة من بني عقيل، قيل إنها أعتقته. نشأ في بني عقيل واختلف إلى الأعراب المخيمين ببادية البصرة فشب فصيح اللسان، صحيح البيان. ولد أكمه (أعمى)، على أنه كان يشبه الأشياء بعضها ببعض في شعره، فيأتي بما لا يقدر عليه البصراء. هو أشعر المولدين وهو المتقدم فيهم. طرق كل باب من أبواب الشعر وبرع فيه، واشتهر شعره بالمجون والهجاء والغزل الرقيق. اتهم بالزندقة فأمر الخليفة المهدي بضربه، فمات تحت السياط ودفن بالبصرة. كان بشار شعوبياً زنديقاً. فهو القائل :
إبليسُ أفضلُ من أبيكم آدم     فتبينوا يا معشر الفجار
النارُ عنصـره وآدم طينة     والطين لا يسمو سمو النارِ
الأرضُ مظلمةٌ والنارُ مشرقةٌ     والنارُ معبودةٌ مذ كانت النار
و يقول أيضا ساخرا من الصلاة :
وإنني في الصلاة أحضرها     ضحكة أهل الصلاة إن شهدوا
أقعدُ في الصلاة إذا ركعوا     وارفع الرأس إن هم سجدوا
ولستُ أدري إذا إمامهم     سلم كم كان ذلك العددُ
(المراجع: الأعلام 2/ 24. وفيات الأعيان 1/ 271، 420-428، 467. تاريخ بغداد 7/ 112. الأغاني 3/ 135، 6/ 242 نهاية الأرب 3/ 80. طبقات الشعراء ص/ 24.)
***
الجاحظ (767-868 م) :
هو عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي بالولاء، الشهير بالجاحظ. كبير أئمة الأدب. قضى الجاحظ أكثر عمره في البصرة وقصد بغداد بدعوة من المأمون وعينه في ديوان الرسائل وجعل له الصدارة فيه، وما انقضت ثلاثة أيام حتى استعفى من منصبه فأعفي، إلا أنه بقي مخلصا للمأمون. كان للجاحظ إنتاج وفير، وله من الكتب ما يزيد على المائتي كتاب، وهي كما قال ابن العميد: "تعلم العقل أولا والأدب ثانيا" وقد نشر منها: كتاب الحيوان وكتاب البيان والتبيين، وكتاب البخلاء، ومجموعة من الرسائل. أما كتاب الحيوان، فقد نشر في سبعة أجزاء، وفيه تناول الجاحظ وصف طبائع الحيوان، وفيه عرض لأطراف من العلوم وتجاربها وخصائصها، ووجه النظر إلى الطبيعة وتأكيد الثقة في حقائقها وبراهينها فسبق بذلك (بيكون
F-Bacon) واتبع في دراسته الشك المنهجي، فسبق بذلك (ديكارت R-Descartes). كان يؤمن أن القرآن حادث ومخلوق لأنه شئ من الأشياء، وكان يؤيده الخليفة المأمون، ومن مؤلفاته التي توضح ذلك "كتاب خلق القرآن"، وفي هذا أثار نقمة السنة من أهل الاسلام الذين نادوا بأن القرآن غير مخلوق، وهذا وضعه على قائمة الملاحدة والزنادقة.
(المراجع : وفيات الأعيان 3/ 470. شذرات الذهب 2/ 121. إعتاب الكتاب ص/ 154. تاريخ بغداد 12/ 112. تكملة الفهرست ص/ 3. معجم الأدباء6/ 56- 80. أمراء البيان ص/ 311- 487. الأعلام 5/ 239)
***
صالح بن عبد القدوس (توفى 777 م) :
صالح بن عبد القدوس بن عبد الله بن عبد القدوس من أهل البصرة، كان يجلس للوعظ ويقص الأخبار. غير أنه كان يزين الثنوية (دين الفرس القديم)، فلما اشتهر أمره استقدمه الخليفة المهدي، لكنه هرب إلى دمشق واستخفى بها زمناً فلما عرف المهدي مكانه، وجه إليه قريشاً الحنظلي فقبض عليه وجاء له إلى بغداد. فحاكمه المهدي ثم قتله سنة 777 م، وصلبه على جسر بغداد. هذه الأبيات، يتهكم فيها على النبي محمد وعلاقته بزوجاته :
غصب المسكينَ زوجتَهُ     فجرتْ عيناهُ من دُرَرهْ
ما قضى المسكينُ من وطرِ     لا ولا المعشارَ من وطرهْ
عذتُ بالله اللطيف بنا     أن يكونَ الجوْرُ من قَدَره
(المراجع: الأعلام 3/ 277. فوات الوفيات 1/ 391. تاريخ بغداد 9/ 303. وفيات الأعيان 2/ 492. معجم الأدباء 4/ 268 نهاية الأرب 3/ 82. طبقات الشعراء ص/160.)
***
الكندي (811-866 م) :
هو يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث الكندي. ينتهي نسبه إلى ملوك كندة، فهو عربي الأصل، ومن أجل ذلك لقبوه بفيلسوف العرب، واشتهر في بلاد الغرب باسم (الكندوس
al kindus). نال حظوة عند المأمون والمعتصم والواثق، وعلت منزلته عندهم، غير أنه لقي عنتا من المتوكل بسبب الأخذ بمذهب المعتزلة، فأمر المتوكل بضربه ومصادرة كتبه. اتهم بالزندقة وكان يدافع عن نفسه بأن أعداء الفلسفة جهلة وأغبياء وتجار دين.
(المراجع: طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة ص/ 285- 293. طبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل ص/ 73)
***
الحلاج (858-922 م) :
هو الحسين بن منصور بن محمى، الملقب بالحلاج أبو مغيث، فيلسوف متصوف، بعض المؤرخين يعده من السهاد المتعبدين، وبعضهم يعده من الزنادقة الملحدين، كان جده محمى مجوسيا وأسلم. أصله من مدينة (البيضاء) بفارس، ونشأ بواسط وانتقل إلى البصرة. وكانت تروى عنه أمور تعد من الخوارق. يقول الذهبي في كتابه (العبر في خبر من غبر) : إن الحلاج صحب سهل التستري والجنيد وأبو الحسين النوري، وهم من أئمة الصوفية، ثم فتن فسافر إلى الهند وتعلم السحر، فحصل له حال شيطاني وهرب منه الحال الإيماني. كانت عقيدته الصوفية تقوم على (وحدة الوجود) أي أن الإنسان مندمج في ذات الله.
كان شاعرا مجيدا وقد عبر عن صوفيته وفلسفته بأشعار نظمها منها قوله في علاقته بالله :
أنـا مـن أهـوى ومـن أهـوى أنـا     نحـــن روحــان حللنــا بدنــا
فـــإذا أبصـــرتني أبصرتـــه     وإذا أبصرتـــــه أبصرتنـــــا
ويذكرون أن الحلاج سمي بهذا الاسم لأنه اطلع على ما في القلوب، وكان يخرج لب الكلام كما يخرج الحلاج لب القطن. ولما رفع أمره إلى الخليفة المقتدر أمر أبا الحسن علي بن أحمد الراسبي، ضامن خراج الأهواز، أن يأتيه به فقبض عليه مع غلام له وحمله إلى بغداد سنة 301هـ، فصلب على جذع شجرة، ثم سجن وظل مسجونا ثماني سنين، ثم عقد له مجلس من القضاة والفقهاء، فشهد عليه أناس بما يدينه بالزندقة والإلحاد فصدر الحكم بقتله وإحلال دمه، فسلم إلى (نازوك) صاحب الشرطة فضرب ألف سوط ثم قطعت أربعة أطرافه ثم حز رأسه وأحرقت جثته.
(المراجع : ابن الأثير 8/126، 129. الفهرست ص/269، 272. البداية والنهاية 11/132، 144. الحضارة الإسلامية في القرن الرابع عشر 2/46، 53. طبقات الصوفية ص/307. وفيات الأعيان 2/140)
***
الفارابي (870- 950 م) :
هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان، مدينته فاراب، وهي مدينة من بلاد الترك في أرض خراسان، يعرف في الغرب باسم
Alpharabius. غادر مسقط رأسه وذهب إلى العراق لمتابعة دراساته العليا، فدرس الفلسفة، والمنطق، والطب على يد الطبيب المسيحي يوحنا بن حيلان، كما درس العلوم اللسانية العربية والموسيقي. ومن العراق انتقل إلى مصر والشام، حيث التحق بقصر سيف الدولة في حلب واحتل مكانة بارزة بين العلماء، والأدباء، والفلاسفة. وحاول أن يثبت أن لا خلاف بين الفلسفة اليونانية وبين عقائد الشريعة الإسلامية، ولكنه فشل بالتأكيد حيث قال عنه الذهبي في سير الأعلام (15/416) أن له تصانيف مشهورة من ابتغى منها الهدى ضل وحار، ومنها تخرج ابن سينا. وقال عنه ابن عماد في شذرات الذهب (2/353) أنه أكثر العلماء كفر وزندقة، حتى أن الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال أكد أنه لا شك في كفره هو وان سينا، وكان الاتهام يشمل انكاره يوم القيامة وأن الأجساد تقوم، وأن الله يعلم الكليات لا الجزئيات، وأن العالم ليس محدث أو مخلوق وإنما هو ازلي الوجود كالله.
(المراجع : وفيات الأعيان 5/153. طبقات الأطباء ص/603، 609. البداية والنهاية 11/224. العبر 2/251. القفطي ص/182، 184. تراث الإسلام 3/231. الفهرست ص/368. تاريخ الفكر العربي ص / 352)
***
أبو العلاء المعري (979-1058) :
أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري، ولد في معرة النعمان بالشام، عندما بلغ الرابعة من عمره أصابه الجدري فأفقده عينيه، ولم يمنعه ذلك من أن يظهر في مؤلفاته هذا التنوع وتلك الدراية الواسعة بالعلوم التي قل أن نجد لها نظيراً عند غيره، عرف بأنه عالم متبحر وشاعر مطبوع متأثر بأسلوب المتنبي. ولم تظهر موهبته الفريدة إلا في كتبه المتأخرة التي كتبها بعد عودته إلى المعرة: "اللزوميات" و"رسالة الغفران، عندما بلغه وفاه أمه أثر فيه هذا الحادث تأثيراً بليغاً وشجعه على تنفيذ عزمه على اعتزال الناس. ويقال إنه عاش منذ ذلك الحين في كهف عود نفسه فيه على التقشف: لا يأكل لحم الحيوان بل ولا يتناول البيض واللبن، ومن هنا حصل على لقب "رهين المحبسين" : أي العمى والدار. من أشهر مؤلفاته "اللزوميات"، وقد خرج أبو العلاء في اللزوميات على قيود العقيدة التي كانت تقيد سلفه وسما بنفسه إلى مستوى أعلى. ولأبي العلاء مؤلف آخر مشهور هو "رسالة الغفران"، وهي رسالة كتبها بأسلوب منمق، وأهداها إلى رجل يدعى علي بن منصور الحلبي. وقد عرض المؤلف الشعراء الزنادقة الذين غفر لهم – ومن هنا اشتق اسم الرسالة – والذين رفعوا إلى الجنة، عده الكثيرون من معاصريه زنديقا، فليست هناك عقيدة إسلامية لم يسخر منها، وليس أمامنا إلا القول بأنه كان متشككاً قوي الشك، وكان أبو العلاء يؤمن بالتوحيد، بيد أن إلهه ليس إلا قدر غير مشخص، كما أنه لم يأخذ بنظرية الوحي الإلهي، فالدين عنده من صنع العقل الإنساني ونتيجة للتربية والعادة. وكان الشاعر دائماً يهاجم أولئك الذين يستغلون استعداد العامة لتصديق الخرافات بقصد اكتساب السلطة والمال. يقول في اللزوميات :
قــد تــرامت إلـى الفسـاد البرايـا     واســتوت فــي الضلالـة الأديـان
وأيضا يقول :
وإذا مــا ســألت أصحــاب ديـن     غــيروا بالقيــاس مــا رتبــوه
لا يدينـــون بـــالعقول ولكــن     بأبـــاطيل زخـــرف كذبـــوه
(المراجع : معجم الأدباء 1/162. وفيات الأعيان 0/113. الوافي بالوفيات 7/94. النجوم الزاهرة 5/61. البداية والنهاية 12/215. تاريخ بغداد 4 / 240)
***
ابن طفيل (توفى 1185 م) :
هو محمد بن عبد الملك بن محمد بن طفيل القيسي الأندلسي. ولد بمدينة (وادي آش) قرب غرناطة. درس الفلسفة والطب في غرناطة. أعظم فلاسفة الأندلس ورياضيها وأطبائها. تولى منصب الوزارة ومنصب الطبيب الخاص للسلطان أبي يعقوب يوسف أمير الموحدين، وكانت له حظوة عظيمة عنده. وكان معاصرا لابن رشد وصديقا له. لم يصل إلينا من كتبه سوى قصة (حي بن يقظان) أو (أسرار الحكمة الإشراقية) وقد ترجم إلى عدة لغات أجنبية. كان من المعروف لجوئه إلى الرمز في عرض فلسفته، لأنه كان يعلم أن الدين الاسلامي قد منع الخوض في كثير من الموضوعات التي كان يعالجها، ومن أقواله في كتاب "حي بن يقظان" عن عوام المسلمين وأهل الفقة: "لا يزدادون بالجدل إلا اصرارا، وأما الحكمة فلا سبيل لهم إليها"
المراجع : الوافي بالوفيات 4/37 - المعجب ص/172 - المن بالإمامة ص/411 - قصة الحضارة الجزء الثاني من المجلد الرابع ص/369 - المغرب 2/85 - دائرة المعارف الإسلامية (ابن الطفيل).
***
ابن رشد (1126-1198 م) :
هو محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي. درس ابن رشد الفقه والأصول ودرس من علوم الأوائل الطب والرياضيات والفلسفة وتولى القضاء سنوات في إشبيلية ثم في قرطبة. وقد أراد ابن رشد أن يلقي في بيئة الأندلس قبسا من نور الفلسفة، فاصطدم بصخرة الجهل والتعصب الذميم. نشأ ابن رشد في ظل دولة الموحدين، وملكهم يومئذ أبو يوسف يعقوب المنصور بن عبد المؤمن، وبتأثير العامة أمر بإبعاده إلى (أليسانة) قرب غرناطة ثم نفي إلى بلاد المغرب ونكل به وأحرقت كتبه وتوفي في مراكش عن 75 عاما ونقلت جثته إلى قرطبة وبموته تفرق تلاميذه ومريدوه وأصدر المنصور يعقوب مرسوما بتحريم الاشتغال بالفلسفة. كان ابن رشد شديد الإعجاب بأرسطو فقد عني بفلسفته وتولى إيضاحها. لما كتب أبو حامد الغزالي كتابه (تهافت الفلاسفة) أراد به إبطال آراء الفلاسفة في الإلهيات وزعزعة ثقة الناس بهم، وقد أراد بذلك إثبات قصور العقل الإنساني في معرفة الحقيقة، في الأمور الإلهية، وأن يبين أن الوصول إلى الحق لا يكون بالحجج العقلية والاستدلالات الفلسفية، وإنما يكون بالكشف الإلهامي وبنور يقذفه الله في القلب، وكان لهذا الموقف العدائي للفلسفة أثره في ركودها في العالم الإسلامي، وقد تولى ابن رشد الرد عليه في كتابه (تهافت الفلاسفة) وبين ما في رأي الغزالي من سفسطة تقوم على الأقاويل الجدلية والخطابية. من أقواله ما يؤكد أنه إذا بحثت الفلسفة موضوعا وتوصلت إلى معرفته وكان متعارضا مع ما هو مذكور في الشريعة الاسلامية، فأنه يجب تأويل الشرع ليناسب المنطق والفلسفة. أي أنه فضل العقل على النقل والفلسفة على الشريعة.
المراجع: وفيات الأعيان 4/434 - نفح الطيب 3/16 - شذرات الذهب 4/320 - العبر 4/288 - كشف الظنون 1/213 - دائرة المعارف الإسلامية (ابن رشد) - طبقات الأطباء ص/530 - تاريخ الفكر الأندلسي ص/ 353.
***
من كل ما سبق من تراجم لشعراء وفلاسفة، يتضح أن تقريبا كل من كان حرا في تفكيره، كان في عرف الشريعة وصحيح الإسلام زنديقا ملحدا، ومن ناحية أخرى، كان العقيدة الاسلامية مصدرا لا ينتهي من الازعاج للعقل والفلسفة، وهذا ما دعا الكثير من الفلاسفة والشعراء الى مراجعة الايمانيات القرآنية والمحمدية، وكانت في الغالب المراجعة تنتهي بما ليس في صالح العقيدة. وكان المصير المحتوم في الكثير من الحالات هو النفي أو القتل، هذا إلى جانب مصادرة الكتب أو حرقها. فكان الاسلام وبحق يتعامل مع المختلفين بالطريقة الاسلامية. والمثير للغرابة أن الاسلام كشريعة يحكم عليهم بالكفر وبالتالي بالقتل، ولكن المسلم المعاصر لا يملك إلا أن يستشهد بأمثال هؤلاء لإثبات دور الحضارة الاسلامية في الحضارة العالمية، والسؤال الملح :
إذا فقد الاسلام هؤلاء الملاحدة وتنكر لهم، ماذا يبقى للمسلمين غير الجهاد والحروب والغزوات، والقتل والسحل والسلائب والأغنام ؟ وماذا يبقى للاسلام من أثر على الحضارة الانسانية سوى التدمير والقضاء على كل أخضر منذ عهد محمد بن عبد الله إلى عصرنا الحالي.

----------------------------------------



4 - تكملة العصر الاسلامي الوسيط

تكملة للمقال السابق، أستعرض المزيد من الشاكين والملحدين والزناقة من أعلام الاسلام، ومفخرة الحضارة الاسلامية. وفي الامثلة التالية يتراوح الإلحاد بين الشك والبحث عن يقين كما في حالة الغزالي، إلى الكفر الصريح بإله القرآن والرسالة المحمدية كما في الراوندي والتوحيدي، ومرة أخرى يتأكد لنا أن الإلحاد في هذه الحقبة كان من المواليد الشرعيين للعقيدة والفكر الفقهي الاسلامي، ويمكن أن نقول أن الإلحاد المعاصر للاسلام العباسي في كثير من صوره كان ردة فعل انسانية على تطرف إله الاسلام والعقيدة الاسلامية التي تحرم الانسان من أبسط حقوقه الفكرية، وتحشر الإله بين الانسان وأدق تفاصيل حياته، فتحكمه في تفاصيبل التحية والمعاشرة الزوجية والنوم والقيام والركوب والجلوس والأكل وحتى قضاء الحاجة، دون أي مساحة من القرار الانساني الحر. وفي هذا الجو الخانق لابد أن يتمرد الانسان ليحافظ على البقية الباقية من انسانيته.
ومن الشاكين والملاحدة :
ابن الراوندي (825-911 م) :
هو أحمد بن يحيى بن إسحاق, أبو الحسن, أو الحسين الراوندي, نسبة إلى (راوند) من قرى أصبهان. فيلسوف مجاهر بالإلحاد, له مناظرات ومجالس مع جماعة من علماء الكلام, وقد انفرد بمذاهب نقلوها عنه في كتبهم ومنها قوله بالحلول وتناسخ روح الإله في الأئمة. ومن أعلام المعتزلة في القرن الثالث الهجري، اذ أيد المعتزلة، ووضع لهم الكتاب تلو الكتاب للدفاع عن آرائهم الكلامية والفلسفية، ولكنه انفصل عنهم فيما بعد، فأخذ ينتقد آراءهم ومناهجهم ويرد عليهم، ومن أشهر كتبه التي الفها في الرد على المعتزلة كتاب ( فضيحة المعتزلة ).
يقول ابن العماد الحنبلي صاحب شذرات الذهب, أن أباه كان يهوديا فأظهر الإسلام, ويقول عنه ابن كثير أنه أحد مشاهير الزنادقة, طلبه السلطان فهرب ولجأ إلى ابن (لاوي) اليهودي بالأهواز, وصنف له في مدة إقامته عنده, كتابه الذي سماه (الدامغ للقرآن) أى الذي وصم به القرآن. يقول ابن حجر العسقلاني "ابن الراوندي, الزنديق الشهير, كان أولا من متكلمي المعتزلة, ثم تزندق واشتهر بالإلحاد" , ويقال إنه كان في غاية الذكاء. قال عنه أبو العلاء المعري في رسالة الغفران: سمعت من يخبر أن لابن الراوندي معاشر يخترصون له فضائل. من أهم واخطر الكتب التي ألفها ابن الراوندي " الزمرد " والذي تجاسر فيه ابن الراوندي على التشكيك في ركن الأركان في الاسلام وهو النبوة، ، وأنكر معجزات محمد، حيث سخر فيه في العقائد الاسلامية وأنكر المعجزات الحسية، ونقد فكرة اعجاز القرآن، وأكد على سمو العقل على النقل وبين أوجه تعارض الشريعة الاسلامية مع العقل.
ألف كتبا في الطعن على الشريعة منها (فضيحة المعتزلة) و(التاج) و(الزمردة) و(نعت الحكمة) و(قضيب الذهب) و(الدامغ). ولم يصلنا أي من كتبه للأسف وماذكر منها هو ما كتبه المشايخ في الرد عليه. مات الراوندي برحبة مالك بن طوق بين الرقة وبغداد, وقيل صلبه أحد السلاطين, وجاء في كتاب البداية والنهاية لابن كثير أنه مات عند ابن (لاوي) اليهودي وكان لجأ إليه. (لابد من دور لليهود في إلحاده !!!)
المراجع: البداية والنهاية 11/112. وفيات الأعيان 1/94. مروج الذهب 7/237. الملل والنحل 1/81 , 96. المنتظم 5/99. شذرات الذهب 2/235. رسالة الغفران ص/410 , 442. النجوم الزاهرة 3/175. العبر 2/116. تكملة الفهرست ص/4. دائرة المعارف الإسلامية: مادة (الراوندي). الطبري 6/147
***
ثابت بن قرة (836 -901 م) :
هو ثابت بن قرة بن مروان بن ثابت الحراني الصابئي. أبو الحسن. من أعلام الرياضة والطب والفلسفة, ولد في حران بلدة بين دجلة والفرات, ونشأ فيها ومارس الصيرفة في أول أمره, ثم انتقل إلى بغداد ودرس الفلسفة والرياضيات وعاد إلى حران فحدث بينه وبين الصابئة, أهل مذهبه, أشياء أنكروها عليه, فحرم عليه رئيسهم دخول الهيكل. فعاد إلى بغداد واتصل بمحمد بن موسى بن شاكر الخوارزمي, فأعجب بذكائه واستعداده العلمي الكبير, فقدمه إلى الخليفة المعتضد فأدخله في جملة المنجمين, ثم حظي عنده بمكانة عظيمة وأغدق عليه نعما كثيرة. كان يحسن السريانية واليونانية والعبرية. واشتهر بمؤلفاته القيمة في الطب, ولم يكن في زمانه من يماثله في هذه الصناعة. ألف كتبا عديدة ورسائل كثيرة في الطب والرياضيات والفلك, منها: اختصار المنطق, كتاب في حركة الأفلاك، كتاب في المخروط المكافئ، كتاب في الشكل الملقب بالقطاع، كتاب في قطع الاسطوانة، كتاب في العمل بالكرة، كتاب في قطوع الاسطوانة وبسيطها، كتاب في مساحة الأشكال وسائر البسط والأشكال المجسمة، كتاب في المسائل الهندسية، كتاب في المربع، كتاب في أن الخطين المستقيمين إذا خرجا على أقلّ من زاويتين قائمتين التقيا.
وبالطبع بما أنه صابئ فهو في عرف الاسلام كافر من عبدة النجوم والكواكب.
المراجع : طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة ص/295. الأعلام 2/82. ابن خلكان 1/313
***
الرازي (محمد بن زكريا) (864-925 م) :
هو محمد بن زكريا الرازي. أبو بكر. أعظم أطباء الإسلام وأكثرهم ابتكارا, ومن أشهر فلاسفتهم. ويعتبره الغربيون طبيب الدولة الإسلامية الأول. من أهل الري ونسبته إليها. ولد وتعلم بها وسافر إلى بغداد بعد سن الثلاثين. أولع بالغناء والموسيقى في أول عمره, ونظم الشعر في صغره, ثم تخلى عن ذلك ونزع إلى الطب والفلسفة. وتولى تدبير مستشفى الري ثم رئاسة الأطباء في المستشفى العضدي ببغداد. يعرف الرازي عند الأوربيين باسم (
Razhes) وهو أول وأعظم علماء المدرسة الحديثة في الطب بلا مراء. نزح إلى بغداد وتلقى علومه على يد الطبيب المسيحي حنين بن إسحاق. وإلى جانب الطب عكف الرازي على دراسة الفلك والرياضيات وله في الموسيقى باع عظيم فكان من أوائل واضعي النظريات الموسيقية وكثيرا ما أشاد خلفاؤه الموسيقيين بنظرياته في الموسيقى. يضاف إلى ذلك أنه انصرف إلى دراسة الفلسفة وهو يعتقد أن النفس هي التي لها الشأن الأول فيما بينها وبين البدن من صلة, وأن ما يجري في النفس من خواطر ومشاعر ليبدو في ملامح الجسم الظاهرة, لذلك وجب على الطبيب ألا يقصر في دراسته على الجسم وحده بل لا بد له أن يكون طبيبا للروح. من أهم كتبه: كتاب الأسرار الذي نقله إلى اللاتينية (جيرار الكرموني G. Garmana) فأصبح مصدرا رئيسيا للكيمياء, وكتاب الطب المنصوري, ألفه باسم أمير الري منصور بن محمد بن إسحاق بن أحمد بن أسد الساماني, وكتاب الفصول في الطب, ومقالة في الحصى والكلى والمثانة, وكتاب تقسيم العلل, والمدخل إلى الطب, ومنافع الأغذية ودفع مضارها, وغير ذلك من المصنفات. أما رسائل الرازي فأشهرها كتاب الجدري والحصبة وتعد مفخرة من مفاخر التأليف الطبية, وقد نقلت إلى عدة لغات وأكسبت الرازي شهرة عظيمة, على أن أهم مؤلفات الرازي على الإطلاق كتابه (الحاوي في الطب( وهو يتضمن كل ما توصل إليه الطب السرياني والعربي من معرفة واكتشافات. وقد نقله إلى اللاتينية (فراج بن سالم الإسرائيلي) سنة 1279 م.
من جهة أخرى كان من زنادقة الاسلام الذين يؤمنون أن الله هو خالق الخير وابليس هو خالق الشر (المذهب المثنوي الفارسي القديم). وقيل بأزلية خمسة أشياء هم الله وابليس والزمن والخلاء (أي العدم) والهيولي (الروح). جمع بين مذاهب الصابئة والدهرية والفلاسفة والبراهمة الهنود، ووضع كتابا في ابطال النبوءة، ورسالة في ابطال القيامة واليوم الآخر. وقد أثار ذلك حفيظة الكثير من العلماء ضده حتى رموه بالكفر واتهموه في دينه.
المراجع : سير أعلام النبلاء (14/ 354، 355). عيون الأنباء في طبقات الأطباء : ابن أبي أصيبعة (2/ 343: 361). في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية (ص (90: 117). الوافي بالوفيات (3/ 75: 77).
***
المتنبي (915-965 م) :
هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد، الجعفي الكوفي الكندي. أبو الطيب. الشاعر الحكيم وأحد مفاخر العرب، له الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. يعده علماء الأدب أشعر الإسلاميين. ولد في الكوفة في حي (بني كندة) ولذلك يقال له (الكندي) و(الكوفي). كان المتنبي شاعرا من شعراء المعاني وفق بين الشعر والحكمة، وجعل أكثر عنايته بالمعنى يسكبه في بيت واحد مهما اتسع ويصوغه بأبدع الصياغة التي تأخذ بالألباب. أطلق الشعر من قيوده التي قيده بها أبو تمام. في الطريق إلى بغداد، عرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي -أحد رؤساء الأعراب- وقاتله طمعا بما كان معه من مال وقتله وقتل ابنه (المحسد) وغلامه (مُفْلِح) في موضع يقال له (الصافية) قرب (النعمانية) عند (دير العاقول) على نحو ميلين من الضواحي الغربية لبغداد بجوار (النهروان) .
وقيل إنه ادعى النبوة وفتن الناس بقوة سحره وبيانه. وإنما سمي المتنبي لأنه على ما قيل ادعى النبوة في بادية السماوة وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم. فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيدية فأسره وتفرق أصحابه وحبسه طويلا ثم استتابه وأطلقه وكان قد قرأ على البوادي كلاما ذكر أنه قرآن أنزل عليه، ومن ذلك: "والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، أن الكافر لفي أخطار، امض على سنتك، واقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن اللّه قامع بك زيغ من ألحد في الدين وضل عن السبيل". وكان إذا جلس في مجلس سيف الدولة وأخبروه عن هذا الكلام أنكره وجحده.
المراجع: يتيمة الدهر 1/139. تاريخ بغداد 4 / 102. مذكرات الأستاذ بدر الدين النعساني عن أبي الطيب. النجوم الزاهرة 3/340. شذرات الذهب 3/13. الأعلام 1/110. البداية والنهاية 11/256.
***
التوحيدي (توفى 1023 م) :
هو علي بن محمد بن العباس التوحيدي. أبو حيان. قيل إن أباه كان يبيع نوعا من التمر يسمى التوحيد، أو لعل هذه النسبة جاءته من أنه كان من المعتزلة من أهل العدل والتوحيد. فيلسوف، معتزلي متصوف. ولد في شيراز أو نيسابور وقضى معظم أيام حياته في بغداد وتلقى فيها العلوم على شيوخ العصر في الفقه والنحو المنطق واللغة. كتب أبو حيان التوحيدي كتبا كثيرة أشهرها : المقابسات، وهي مذكرات كان يكتبها بعد الجلسات التي كان يعقدها مع الأدباء والمفكرين والأعيان. كتاب (الإمتاع والمؤانسة) وهو أيضا مجموعة من الموضعات حدث بها أبا عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان وزير صمصام الدولة البويهي، في مدى سبعا وثلاثين ليلة، ثم جمعها في كتاب، ومن تآليف التوحيدي رسالة في علم الكتابة، وكتاب (بصائر القدماء وسرائر الحكماء) وكتاب (الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية) ورسالة في أخبار الصوفية. وكتاب رياض العارفين ورسالة في الإمامة وكتاب (الهوامل والشوامل). وقد أحرق التوحيدي في آخر حياته، كتبه، فلما عذل في ذلك قال : إني فقدت ولدا محبا وصديقا حبيبا، وصاحبا قريبا، وتابعا أديبا، ورئيسا منيبا، فشق علي أن أدعها لقوم يتلاعبون بها ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة، فما صح لي من أحدهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ، وقد اضطررت بينهم، بعد الشهرة والمعرفة، في أوقات كثيرة، إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة".
وكان معتزليا على مذهب الجاحظ مع ميل إلى التصوف. وقد رمي بالزندقة وقال عنه ابن الجوزي : زنادقة الإسلام ثلاثة : ابن الراوندي والتوحيدي والمعري.
المراجع : معجم الأدباء 5/381. وفيات الأعيان 2/474 (في آخر ترجمة ابن العميد) الأعلام 5/144. دائرة المعارف الإسلامية : (التوحيدي). تاريخ الأدب العربي لفروخ 3/70، 73. أخبار الحكماء ص/185، 186.
***
ابن سينا(981-1037 م) :
هو الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، هو ألمع اسم بعد الرازي في تاريخ الطب العربي. فقد كان الرازي يتفوق على ابن سينا في الطب، وكان ابن سينا يتفوق عليه في الفلسفة. وفي الواقع فقد تجلت في ابن سينا صفات الفيلسوف والطبيب والفقيه والشاعر. يعرف عند الغرب باسم (
Avicenne). ولد في (أفشنة) إحدى قرى بخارى، وكان أبوه من (بلخ) وانتقل إلى بخارى وتزوج من (أفشنة)، وكان يتعاطى في بخارى مهنة الصرافة. وفي بخارى تلقى ابنه الحسين العلم واستظهر منذ حداثة سنه القرآن الكريم وألم بعلوم الشريعة والدين، ثم أكب على دراسة الطبيعيات والرياضيات والمنطق وعلوم ما بعد الطبيعة، وأخذ فن الطب من طبيب مسيحي يدعى عيسى بن يحيى. استهوته الفلسفة فأكب على دراستها وعكف على علم ما بعد الطبيعة وطالع كتاب أرسطو فيه وأفاد من كتاب الفارابي في أغراض ما بعد الطبيعة الذي شرح فيه علم أرسطو، فانكشف لابن سينا ما كان مستغلقا عليه منه، وأقام مذهبا فلسفيا في الوحدانية يقترب إلى أقصى حد ممكن من تركيب يؤلف بين الإسلام وتعاليم أفلاطون وأرسطو. أشهر كتبه في الفلسفة (الشفاء) وقد قصد به شفاء النفس من عللها وأخطائها وعالج موضوع النفس بقدر ما عالج موضوع الجسم، وكتابه (النجاة) وهو مختصر كتابه (الشفاء)، وأشهر كتبه في الطب كتاب (القانون) وفيه خلاصة فكره الطبي، شاملا آثار الإغريق والعرب، وقد ترجم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر للميلاد وطبع ست عشرة مرة في القرن الخامس عشر، وكان مادة تعليم الطب في جامعات أوروبا حتى أواخر القرن السابع عشر.
كان يقول بنفس المبادئ التي نادى بها الفارابي من قبله بأن العالم قديم أزلي وغير مخلوق، وأن الله يعلم الكليات لا الجزئيات، ونفى أن الأجسام تقوم مع الأرواح في يوم القيامة. وقد كفره الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال"، وأكد نفس المكعلومات ابن كثير في البداية والنهاية (12/43). وقد أكد ابن عماد في شذرات الذهب (3/237) أن كتابه "الشفاء" اشتمل على فلسفة لا ينشرح لها قلب متدين. وشيخ الاسلام ابن تيمية أكد أنه كان من الاسماعيلية الباطينية الذين ليسوا من المسليمن أو اليهود أو النصارى.
المراجع : ابن الأثير 9/436. تاريخ الحكماء ص/52، 72. طبقات الأطباء ص/437، 459. النجوم الزاهرة 4/25. البداية والنهاية 12/42. الموسوعة الفلسفية المختصرة ص/12. تراث الإسلام 3/144. تراث العرب العلمي ص/165
***
عمر الخيام (1048 -1131 م) :
هو عمر بن إبراهيم الخيام, غياث الدين أبو الفتح. من أهل نيسابور مولدا ووفاة. شاعر فيلسوف, وعالم مشهور من علماء الرياضيات والفلك واللغة والفقه والتاريخ. صنف الكتب ونظم الشعر بالفارسية والعربية وترجع شهرته في الشرق والغرب إلى رباعياته. وتدور معظم رباعيات الخيام على الحب والخمرة, وبها يستدل في بلوغ مراميه بأسلوب رمزي. وفي رباعياته استخفاف ظاهر بالدنيا والآخرة وبالعقل والشريعة.
يقول في الجنة :
يقولــون حـور فـي الغـداة وجنـة
وثمــة أنهـار مـن الشـهد والخـمر
إذا اخــترت حـوراء هنـا ومدامـة
فمـا البـأس فـي ذا وهو عاقبة الأمر
و يقول مخاطبا الله :
إلهي قل لي من خلا من خطيئة
و كيف ترى عاش البريء من الذنب
إذا كنت تجزي الذنب مني بمثله
فما الفرق بيني وبينك يا ربي؟
و يتساءل : لبست ثوب العمر ما استشارني ربي يوم خلقني؟
المراجع : ابن الأثير 1/98 - تاريخ حكماء الإسلام ص/119 - تراث فارس ص / 379 - جهار مقالة ص/155 - تاريخ الحكماء للقفطي ص/162 - تاريخ الأدب في إيران ص/304
***
الغزالي (1048-1111 م) :
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي, أبو حامد, حجة الإسلام, زين الدين, الطوسي (نسبة إلى مدينة طوس) - يعرف باسم (الغزالي) بتشديد الزاي لمن ينسبه إلى صناعة الغزل, ويقال له (الغزالي) بتخفيف الزاي لمن ينسبه إلى (غزالة) من قرى طوس. توفي والده وهو لا يزال صغير السن, فعهد به وبأخيه أحمد إلى صديق له من المتصوفة فرباهما على العبادة والعلم, فانقطعا إلى العلم. وانصرف إلى دراسة الفلسفة درسا عميقا, فطالع كتب الفارابي وابن سينا وألف كتابه (مقاصد الفلاسفة) , وفيه التزم البحث العلمي والحياد التام, ثم ألف بعده كتاب (تهافت الفلاسفة) وفيه أبدى شكوكه في قيمة العلم وبراهينه المنطقية, وقد بلغت شكوكه حدا جعلته يعتزل التدريس ويترك الأهل والولد ويزهد في المال. وصل الغزالي من دراساته الفلسفية إلى ما وصل إليه الفيلسوف الألماني (كانت
kant) فيما بعد, فقد رأى أن العقل ليس مستقلا بالإحاطة بجميع المطالب ولا كاشفا الغطاء عن جميع المعضلات, وأنه لابد من الرجوع إلى القلب فهو الذي يستطيع أن يدرك الحقائق الإلهية بالذوق والكشف, وذلك بعد تصفية النفس بالعبادات والرياضة الصوفية وهو بذلك حاول أن يخضع العلم والعقل للوحي والدين لكي يصل إلى الحقيقة العليا.
على الرغم من أنه من المدافعين عن الاسلام ضد الفلاسفة في كتابه تهافت الفلاسفة، ألا المرء لا يستطيع أن ينكر أنه كان من أكبر الشاكين في عصره، ويتضح ذلك في كتابة المنقذ من الضلال، والذي شك فية في العقل والحواس والفكر والفلسفة، وكيف أنه فقد الأمل في الوصول إلى الحقيقة وكاد الشك أن يقتله. ومن نص كتابة يقول :
"فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس، حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية، فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل. فأعضل هذا الداء، ودام قريباً من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بـها على أمن ويقين ؛ ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف"، فكان ايمانه هو نوع من الاستسلام والغاء العقل، وهذا ما جعله يهاجم الفلسفة بضراوة في "تهافت الفلاسفة"، وقد رد عليه ابن رشد مؤكدا أهمية الفلسفة في كتاب "تهافت التهافت"، ولكن النصر كان للغزالي وتأييد العمة والفقهاء له، ووهو في عرف الكثير من المؤرخيين بداية عصر اللاعقلانية وانتصار الغيبيات والعقائد على الفلسفة والفكر. فالحل هو قذف النور في القلب كما يؤكد الغزالي !!!!
المراجع: وفيات الأعيان 4/612 - البداية والنهاية 12/173 - النجوم الزاهرة 5/203 - الوافي بالوفيات 1/274 - العبر 4/10. ابن الأثير 10/491 - كشف الظنون ص/2002  2008 - الأعلام 7/247.
***
ابن عربي (1165-1241 م) :
هو محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي, المرسي الأندلسي, محيي الدين أبو بكر, المعروف بابن عربي (من غير أداة التعريف, تمييزا له عن القاضي أبي بكر بن العربي). ولد ابن عربي في مدينة (مرسية) بالأندلس ولما شب انتقل إلى إشبيلية وفيها بدأ تعلمه, ثم انتقل إلى قرطبة وفيها درس علوم القرآن وعلومه والفقه والحديث ومال إلى المذهب الظاهري, مذهب ابن حزم. وفي قرطبة اتصل بعلمائها كأبي الوليد بن رشد وأبي القاسم بن بشكوال وغيرهما. اختلف الناس فيه فمنهم من عده من الأتقياء والأولياء ومنهم من جعله من الملحدين المارقين, ولعل رأي هؤلاء فيه ما جاء على لسانه من شطحات يدل ظاهرها على الانحراف عن الشريعة وعقيدة الإسلام. ومن أصحاب المذهب القائل "بأن الله والطبيعة شيء واحد وبأن الكون المادي والإنسان ليسا إلاّ مظاهر للذات الإلهية". وقد صنف ابن عربي كتبا كثيرة قيل إنها تجاوزت أربعمائة الكتاب أهمها: الفتوحات المكية, وفصوص الحكمة ومفتاح السعادة, ومحاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار وغير ذلك. كتاب فصوص الحكمة ألفّه في دمشق قبل وفاته بـ 11 عاماً، قصد ابن عربي من خلال هذا العمل عرض حياة وتاريخ الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم على ضوء عقيدته في التوحيد• وقد جاء عمله مطابقاً للكتاب المقدس. وفي هذه الكتب شرح مذهبه الذي يقوم على (وحدة الوجود) وهي امتزاج اللاهوت بالناسوت بما يشبه امتزاج الماء بالخمر بحيث لا يمكن فصلهما أو التمييز بينهما. وهي الفكرة التي تصورها الحلاج من قبل ونادى بها. وله في وحدة الوجود قوله :
فلولاه ولولانا لما كان الذي كانا
فإنا أعبد حقا وإن الله مولانا
وإنا عينه فاعلم إذا ما قلت إنسانا
فلا تعجب بإنسان فقد أعطاك برهانا
وينسب إليه قوله في وحدة الأديان :
لقـد كـنت قبـل اليـوم أنكر صاحبي إذا لـم يكـن دينـي إلـى دينـه داني
فقـد صـار قلبـي قـابلا كـل صورة فمــرعى لغــزلان وديـر لرهبـان
وبيــت لأوثــان وكعبــة طـائف وألــواح تــوراة ومصحـف قـرآن
أديــن بـدين الحـب أنـى توجـهت ركائبــه فــالحب دينـي وإيمـاني
المراجع : فوات الوفيات 2/478 - شذرات الذهب 5/190 - النجوم الزاهرة 6/339 - البداية والنهاية 13/156 - نفح الطيب 2/361 - العبر 5/158 - صبح الأعشى 2/446 - كشف الظنون ص/1586.
***
مما سبق يتأكد لنا أن الصراع بين الفلسفة والدين، وبين الفكر والتكفير، كانا من سمات هذه الحقبة الاسلامية. ومن السهل أن نستنتج أن معظم الحركات الإلحادية والشاكة في الاسلام لم تنكر وجود إله بقدر ما حاولت أن تجد بديلا له خارج المنظومة الإسلامية، بديلا أكثر رحمة وتسامح واقترابا من الانسانية، بديلا يخفف من وطأة الديكتاتورية الإلهية والشريعة النبوية، والسيف المسلول والجهاد. هو محاولة إنسانية لاستعادة الإنسانية.
وعلى الرغم من أن الإحاد ليس حكرا على دين معين، فلكل دين هراطقته وملحديه، والشاكين فيه، ولكنه ليس من الملزم أن يكون تقريبا كل رجال العلم والفلاسفة والفكر والأدب والمنطق والشعر من الشاكين الملحدين، وهذه هي تقريبا الحالة الاسلامية. فالاسلام كشريعة لا يتفق والفلسفة أو المنطق. فالعلوم الوحيدة التي كانت تنال الشرعية عند الأئمة والعامة على السواء هي العلوم الدينية من فقه وسنة وقرآنيات، علوم الأمر والنهي لا التفكير والجدل. إلى درجة وصل فيها شيخ الاسلام ابن تيمية إلى القول عن المنطق أن فيه من شغل القلب عن العلوم والأعمال النافعة ما ضر كثيرا من الناس كما سد على كثير منهم طريق العلم وأوقعهم في أودية الضلال والجهل (مختصر كتاب نقض المنطق لإبن تيمية). ولعل الامام الشافعي أكثر من هاجم الفلسفة والمنطق فقال "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطوطاليس". فكانت المؤسسة الاسلامية ضد كل فلسفة أو منطق أو فكر أو شعور يعلو فوق صوت الجهاد.

وهذا ما أكد بأن الاسلام يحوي تركيبة متميزة مناهضه للتفكير تفوق غيره، وهذا يتوافق بالتأكيد مع إله الاسلام الذي يريد صناعة عبيد لآلة الحرب والجهاد. فمن تفكر قد تزندق، ومن تعبد وجاهد الكفار صار من أهل الجنة ومن أصحاب الحور والولدان !!!