الدكتور أحمد صبحي منصور
1 ـ بدأ مبكرا فى عهد الصحابة اختراع الأحاديث (النبوية) التى نشأت فى حمأة الفتنة الكبرى ، حيث بادر الأمويون فى عهد خلافة عثمان بتوظيف أبى هريرة ليدافع عنهم بأحاديث يزعم أنه سمعها من النبى ، ثم أضاف له الأمويون له كعب الأحبار . بتولى معاوية الخلافة أنشأ منصب القصّاص للترويج له سياسيا بالأحاديث والحكايات ، وبهذا وبزعامة ابى هريرة بدأ عهد الرواية الشفهية للحديث مبكرا مع الفتنة الكبرى وتحولها الى صراع مسلح أسفر عن قيام الدولة الأموية.
2 ـ وقد تم التدوين بالتدريج لهذه الروايات الشفهية فى العصر العباسى ، ثم عمدوا الى إسناد روايتها الى اشخاص ماتوا من قبل خلال عصرى الأمويين والراشدين، وزعموا أن هؤلاء الموتى قد رووا بالتتابع الزمنى تلك الأحاديث عن النبى محمد عليه السلام .
والشافعى والبخارى ومسلم من أهم من سجل تلك الأحاديث بالاسناد.
ويمتاز الشافعى ( 150 ـ 204 )بأنه كتب رسالة فى التأصيل للفقه (السنى ) كما ترك موسوعته الفقهية (الأم ) التى صارت الكتاب المرجع فى المذهب الشافعى.
ولقد نال البخارى ( ت 256 ) شهرة لا يستحقها ـ علميا ـ لأن كتاب تلميذه مسلم (صحيح مسلم ) أكثر تنظيما من (صحيح البخارى) كما يمتاز عنه بمقدمة منهجية تحدثت مبكرا عن الأحاديث من حيث الرواية الشفهية والتدوين والاسناد. وهذه المقدمة فى (صحيح مسلم) هى البداية الحقيقية لما يعرف بعلم المصطلح الذى يتناول الأحاديث من حيث الرواية والدراية. ومن الطريف أن تكون مقدمة( صحيح مسلم ) فى (علم الحديث والمصطلح ) هى البداية ثم تأتى فى النهاية ( مقدمة ابن الصلاح ) .
3 ـ ونتوقف مع لمحة عن الامام مسلم قبل التعرف على مقدمة (صحيح مسلم ).
مسلم بن الحجاج (ت 261 )ـ كأكثرية أهل الحديث ـ فارسى من نيسابور ، نشأ فيها فسمع الحديث عن يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد وإسحاق بن راهويه وغيرهم، وسافر ليسمع الحديث فى مدن أخرى مثل الري و بغداد والبصرة والكوفة والمدينة ومكة ومصر. . وله مصنفات كثيرة أهمها (صحيح مسلم ) أو" كتاب المسند الصحيح " وقال: صنفته من ثلثمائة ألف حديث مسموعة . (المنتظم لابن الجوزى )( 12 / 172 :171)أى أنه إختار كتابه ( صحيح مسلم ) من بين ثلثمائة ألف حديث مسموعة، وكلمة (السماع ) و(سمع ) من مصطلحات التعلم والعلم فى (علم الحديث ) أى كان عدد الأحاديث التى يدور عليها علم الحديث فى عهد مسلم 300 ألف ، وقد إعتبر مسلم الصحيح منها(1% ) فقط ، أى 3033 حديثا سجلها فى صحيحه وكذّب البقية.
وفى مقدمة (صحيح مسلم ) اعلن تكذيبه لمعظم الأحاديث الرائجة فى عصره.
ومقدمة صحيح مسلم إحدى الكتابات التى بدأت مبكرا التأطير للدين السنى القائم على الأحاديث المنسوبة للنبى محمد عليه السلام.
ونقسم قراءتنا النقدية لمقدمة صحيح مسلم فى عدة محاور ، تتناولها هذه الحلقات الثمان . وهذه هى الحلقة الأولى.
قراءة فى مقدمة صحيح مسلم
الحلقة الأولى :
مسلم يجعل الأحاديث وحيا .
1 ـ بعد اسناد طويل يقول مسلم إن أحدهم راى النبى محمدا فى المنام فأخذ عنه حوالى ألف حديث : (..وَحَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، قَالَ سَمِعْتُ أَنَا وَحَمْزَةُ الزَّيَّاتُ، مِنْ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ نَحْوًا مِنْ أَلْفِ حَدِيثٍ . قَالَ عَلِيٌّ فَلَقِيتُ حَمْزَةَ فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَا سَمِعَ مِنْ أَبَانَ فَمَا عَرَفَ مِنْهَا إِلاَّ شَيْئًا يَسِيرًا خَمْسَةً أَوْ سِتَّةً . ).هنا وحى يزعم صاحبه أنه تلقاه مناما من النبى محمد عليه السلام. وهذا الوحى يتعرض للشك حتى من الراوى.
وحتى لا يتهمنا أحد بأننا ندعى أن الامام مسلم يسمى الأحاديث وحيا فاننا نستشهد بما قاله هو نقلا عن أئمته فى الدين السنى : يقول : (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ قَالَ عَلْقَمَةُ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فِي سَنَتَيْنِ . فَقَالَ الْحَارِثُ الْقُرْآنُ هَيِّنٌ الْوَحْىُ أَشَدُّ . ) أى أن حفظ القرآن هين أما وحى الأحاديث والسنة فهو أشد .!!
وتؤيد ذلك رواية أخرى تقول : (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، - يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ - حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّ الْحَارِثَ، قَالَ تَعَلَّمْتُ الْقُرْآنَ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ وَالْوَحْىَ فِي سَنَتَيْنِ - أَوْ قَالَ الْوَحْىَ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ وَالْقُرْآنَ فِي سَنَتَيْنِ . )
2 ـ وتعليقا على هذا الزعم بالوحى بعد موت النبى محمد عليه السلام نقول : هناك نوعان للوحى : وحى الله للأنبياء فى الدين السماوى،وهذا قد انقطع باكتمال القرآن الكريم نزولا و الاسلام دينا (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ) ( المائدة3 ) وهناك وحى الشيطان لأوليائه أعداء الأنبياء ، وهو مستمر الى قيام الساعة باستمرار الشيطان فى غوايته لبنى آدم . واليه ينتمى ذلك الوحى الذى تحدث عنه مسلم . وهم بذلك يحققون إعجازا للقرآن الذى أخبر مقدما بما سيفعلون .
ونعطى بعض التفاصيل:
فى سورة الشعراء يقول تعالى عن القرآن الكريم إنه الوحى الالهى الذى نزل به جبريل على قلب النبى محمد بلسان عربى مبين (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) ( الشعراء 192 ـ 195 ) وقال ان الشياطين لا علاقة لهم به و لا يستطيعون الوحى بمثله (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ) ( الشعراء 210 : 212 ) ثم يخبر رب العزة إن الشياطين تتنزل بوحيها على كل أفاك أثيم (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) ( الشعراء :221 : 223 ). ويصفهم رب العزة بأنهم أعداء الأنبياء ، وأن بعض الشياطين يوحى لأوليائهم من الانس والجن كلاما مزخرفا يضلون به العوام فيصغون اليه ويتبعونه ويقترفون الجرائم اعتمادا على ما فيه من امنيات وشفاعات (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ) ( الأنعام 112 : 114 )
ويلاحظ فى كل ما سبق أن التعبير يفيد الاستمرار، وأنه بينما اكتمل الدين الالهى بنزول القرآن فان الوحى الشيطانى قائم ومستمر بعد نزول القرآن الكريم ، ولذلك جاء التحذير الالهى منه. ومعنى وجود وحى بعد القرآن أى قيام دين أرضى مصنوع على أساس تلك الأحاديث. وهذا ما يعترف به الامام مسلم.
مسلم يجعل الأحاديث دينا .
1 ـ يجعل مسلم تلك الأحاديث دينا فى عنوان يقول :(باب فِي أَنَّ الإِسْنَادَ مِنَ الدِّينِ ) والعنوان يقول إن الاسناد الذى لم يعرفه المسلمون فى عصر النبى و لم يعرفه النبى هو جزء من الدين ، و المعنى أن هناك جزءا من الدين لم يعرفه النبى ولم يقم بتبليغه ولم يأمر به ، فقاموا هم ـ غير مشكورين ـ باكتشافه والعمل به و التوصية به .
تحت العنوان السابق يقول مسلم ( حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَهِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، وَحَدَّثَنَا فُضَيْلٌ، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ وَحَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ . )
هنا اسناد من ثلاثة طرق مختلفة كلها تنتهى ليس للنبى محمد عليه السلام ولكن لأحد الأئمة وهو محمد بن سيرين الذى نسبوا اليه اقتراح فكرة إسناد الأحاديث للنبى محمد قائلا لهم ان هذا العلم دين ، وعليه فليدققوا فيمن يأخذون عنه دينهم. لا توجد هنا إشارة للاسلام الذى اكتمل بالقرآن الكريم ، ولا توجد إشارة للقرآن ، وليس فى القرآن رواة وأسانيد. إى نحن هنا أمام دين جديد له أصحابه وأئمته ورواته.
ويقول مسلم (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُهْزَاذَ، - مِنْ أَهْلِ مَرْوَ - قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَانَ بْنَ عُثْمَانَ، يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ، يَقُولُ الإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ وَلَوْلاَ الإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ ) هنا ينقل الامام مسلم عن أعمدة الدين الجديد ضرورة الاسناد لضبط أقاويل الدين الجديد. أى حتى يتمتع بالتصديق لا بد أن يكون إسناده جيدا للنبى محمد عليه السلام ، ولولا الاسناد لقال فى الدين الجديد كل من هب ودب. الواضح ان أعمدة الدين الجديد هم من فارس ،وظهروا فى الحياة بعد موت النبى محمد بقرنين ، وهم يؤمنون أن هناك جزءا من الدين ـأو دينا ـ لم يبلغه النبى و لم يأمر بتدوينه مثلما فعل مع القرآن الكريم . ولم يقم أيضا الخلفاء الراشدون وغير الراشدين بتدوينه واسناده فقام أبناء مرو وخراسان بتدوينه و اسناده (ليتداركوا ما فرّط فيه النبى محمد عليه السلام وصحبه والسابقون فى الاسلام.!!).
وعلى فرض أن النبى محمد قد قال تلك الأحاديث فان تدوينها يعتبر عصيانا له باعتراف مسلم والاخرين أن النبى نهى عن كتابة أى شىء من حديثه . فقد روى أحمد ومسلم والدارمى والترمذى والنسائى عن أبى سعيد الخدرى قول الرسول "لا تكتبوا عنى شيئاً سوى القرآن فمن كتب عنى غير القرآن فليمحه" وأخرج الدارمى- وهو شيخ البخارى- عن أبى سعيد الخدرى أنهم "استأذنوا النبى فى أن يكتبوا عنه شيئاً فلم يأذن لهم". ورواية الترمذى عن أبى سعيد الخدرى تقول: أستأذنا النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الكتابة فلم يأذن لنا . وروى مسلم وأحمد أن زيد بن ثابت- أحد مشاهير كتاب الوحى- دخل على معاوية فسأله عن حديث وأمر إنساناً أن يكتبه فقال له زيد: "أن رسول الله أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه، فمحاه معاوية".
هذا لو كنا نتحدث عن الاسلام.
أما حين نتحدث عن أديان أرضية ابتدعها المسلمون فالأمر مختلف. ولقد كان لأبناء فارس الفضل الأكبر فى تطوير الأديان الأرضية من سنة و تشيع وتصوف ، بعد أن كانوا ـ الموالى رواد الفكر فى العصر الاموى ـ ثم استمر نفوذهم العلمى فى العصرالعباسى ، وبهم بدأ التدوين ..
والى اللقاء فى الحلقة الثانية