تنظيم قتل الأقباط في الحزب الوطني
ا/عادل حمودة
في دولة اللا قراءة.. لا أدري ماذا أكتب؟.. في زمن اللا حوار.. لا أعرف كيف أتكلم مع الرصاص؟.. وفي أمة عبرت عن عجزها السياسي بالتعصب الديني..
لا أجد في كل لغات العالم جملة واحدة مفيدة.. أزين بها شعر امرأة حزينة اسمها مصر.
لقد بعنا أنبياء التسامح لنشتري تليفوناً محمولاً.. وفرطنا في جيرة " العيش والملح " لنقتني ساعة «سايكو».. وقايضنا حياة من بيننا وبينهم مودة ورحمة بنصف كيلو لحم ضأن.. ومزقنا نسيج الوطن وحرقنا خيوطه وهزمنا تاريخه في أكبر عملية منظمة لضرب وحدته الوطنية.
إن الجناة في جريمة قتل أقباط نجع حمادي هم أنفسهم الجناة في قتل أقباط الإسكندرية.. ولو تغيرت اليد التي تضغط علي الزناد.. وتطلق الرصاص.. ومشعلو الحرائق في كنائس مسيحيي أسيوط هم أنفسهم مشعلو الحرائق في كنائس مسيحيي المنيا والقليوبية والغربية.. ولو اختلفت اليد التي تلقي بكرات اللهب.. نحن أمام خلايا تنظيم إرهابي يضرب في أعمدة أساس المجتمع لينهار البنيان علي رؤوسنا جميعا.. فعندما تتساقط الأحجار بعد الزلزال لن تفرق بين مسلم ومسيحي.. الكل سيردم تحت الركام.
ربما لا تعرف كل خلية في التنظيم الخلية الأخري.. لكن.. كل منها يحمل نفس الفكرة.. وينفذ نفس الخطة.. ويفجر نفس الفتنة.. خلايا " فرنشيز ".. مثل سلسلة مطاعم تبيع نفس البضاعة وإن اختلف اصحابها.. صورة مشابهة لتنظيم القاعدة.. اختفي الأصل.. واستقلت الفروع.
لقد اختارت خلية نجع حمادي ليلة عيد الميلاد كي تنفذ عمليتها.. وهو نفس ما حدث في الإسكندرية منذ أعوام قليلة (1) .. اختارت خليتها أيضا مناسبة دينية.. قبطية.. كي تطلق النار علي ضحاياها.. وهنا وهناك تعمد الجناة استخدام أسلحة آلية لحصد أكبر عدد من الأقباط في أماكن تواجدهم علي مخارج كنائسهم.. وسواء في الشمال أو في الجنوب كانت الخطة تنفذ في ثلاث نقاط ينتقلون بينها في دقائق معدودة.. صورة بالكربون تتكرر.. فلا تصدقوا أنها تصرفات فردية جنائية.. كما تصر التفسيرات الرسمية.
وحسب الروايات الرسمية أيضا فإن الفاعل لابد أن يكون مخبولا.. وإن أصبح في الحادث الأخير مشبوها.. فهو مسجل خطر.. سبق اعتقاله ثلاث سنوات.. تعرض لمتاعب نفسية بعد إجهاض زوجته.. ولابد أنه تألم وتأثر بما حدث لفتاة "فرشوط " التي اغتصبها شاب مسيحي.. يعني برضه مريض نفسيا.
والحقيقة أنه مريض نفسيا مثله مثل كل المتعصبين دينيا الذين أصبحوا أكثر من الهم علي القلب.. لكن.. ذلك لا يعفيه من المسئولية الجنائية.. وإن كان عقابه وحده لا يكفي.. يجب التوصل إلي الكبار المهمين المحرضين علي الجريمة.. هؤلاء هم الجناة الحقيقيون.. فلا يعقل أن يرتكب مجرم محترف مثل هذه المذبحة دون مقابل.. لوجه الله.. خصما من زكاته.. لابد أن هناك من اقنعه بها.. بل ودفع له بجانب المال وعدا بالحماية والرعاية.. ونحن نعرف أن العلاقة حميمة بين " باشوات " السياسة و" وحوش " الجريمة.. بين بعض نواب الشعب ومطاريد الجبال علي طريقة خط الصعيد. أتخيل سيناريو قد يكون قريباً من الحقيقة.. نائب ما أو أكثر شعر في نفسه بحرج بسبب عجزه عن الثأر لفتاة فرشوط التي اغتصبها شاب قبطي.. وشعر بضغوط الناخبين مع التهديد بإسقاطه في الانتخابات القادمة.. فلم يكن امامه سوي القبول بفكرة الانتقام الجماعي والعشوائي من الأقباط حتي لو سقط شهداء من المسلمين.. فكل معركة " مقدسة" يخوضونها لها ضحايا.. يمكن تعويض اسرهم بالمال.. بدفع الدية.
هناك أكثر من دليل علي ذلك.. انتقال أحمد عز أمين تنظيم الحزب الوطني غير المعتاد إلي نجع حمادي كي يحتوي الاتهامات التي وجهت إلي نواب في حزبه.. وتضحيته ببعضهم.. بحرمانه من الترشيح في الانتخابات المقبلة.. ربما لغسل يدي الحزب من الدماء التي علقت بها.. والدليل الآخر أن القتلة كانوا يوجهون نيرانهم نحو شباب صغير من الأقباط في عمر الفتاة التي اغتصبت.. للانتقام لها.. كي يرفع السادة النواب رؤوسهم أمام حملة الأصوات وصولا إلي الحصانة، وتأمل صورة الانتقام يوصلنا إلي مأسأة لا يمكن السكوت عليها.. إن الأقباط يعاقبون بقانون غير القانون الذي يعاقب به المسلمون.. فلو خطف مسلم فتاة مسلمة ذهب أهلها للنيابة أو اقتصوا منه مباشرة.. ولو خطف مسلم فتاة مسيحية (2).. تكرر القانون ذاته.. لكن.. لو خطف مسيحي فتاة مسلمة فإن القيامة تقوم.. وقانون العقاب الجماعي العشوائي يفرض نفسه بوحشية يصعب تقدير خسائرها.. تحرق الكنائس.. ويقتل من يتصادف مروره من الأقباط.. ويسب حملة الصليب علنا.. ومادام القانون الوضعي أو العرفي يطبق علي المسلمين والقانون الشعبي الهمجي يطبق علي المسيحيين فكيف لا نكون أمة من الطائفيين.. الضالين؟.. ولماذا لا يطالب العالم بالحجر علينا؟.
إن التعامل مع الحوادث الطائفية بالقوانين الجنائية وحدها لا يكفي والإصرار علي أنها حوادث فردية تصور ساذج.. خطير.. لن نفيق منه إلا إذا تواصلت تلك الحوادث بعضها البعض وشكلت فوضي جماعية استفزت الطرف المضاد وراح من جانبه يستخدم السلاح في حرب أهلية يمكن أن نشم رائحة شياطها من الآن.
لقد بدأت تلك الحوادث في السبعينيات.. منذ أكثر من ثلاثين سنة.. ولدت وكبرت خلالها أجيال مسيحية رضعت حليب الغضب.. وتحفزت للرد علي ما يجري لها.. ولم تقتنع بنظرية إعطاء الخد الأيسر لمن يضربهم علي الخد الأيمن.. فبدأت بمظاهرات احتجاجية صاخبة أمام الكاتدرائية في قضية " وفاء قسطنطين ".. زوجة قس البحيرة التي أشهرت إسلامها.. ورفعت شعارات ولافتات ورايات سوداء.. ولم يسلم الموقف من استخدام الطوب فيما يشبه انتفاضة الحجارة.. ثم حدثت مواجهة أخري أشد عنفا في الإسكندرية.. استخدم فيها شباب الأقباط الأسلحة البيضاء وزجاجات المولوتوف ضد شباب مسلمين خربوا وكسروا وضربوا كل من ليس منهم.. ولا يتبع ملتهم.. وهكذا ولد العنف القبطي وخرج من عقاله ولم يعد من السهل إعادته إلي القفص وحبسه في الصدور.. لم يعد ما في القلب في القلب.. خرج إلي اللسان.. ثم امتد إلي اليد.. ووقعت أول بروفة للحرب الأهلية.
وقبل أن تخفت نيران مذبحة نجع حمادي بدأت جماعات متفرقة من الشباب القبطي تتحرك للتعبير عن مشاعرها.. ربما بالتجمع امام الكاتدرائية علي طريقة " وفاء قسطنطين ".. وربما بإخراج ما تحت ثيابهم من أسلحة القتل والتخريب علي طريقة (3) " سيدي جابر ".. ربما بأسلوب جديد لم نعرفه من قبل.. لكن.. تدخلت مباحث أمن الدولة وأجرت اتصالات مكثفة مع قيادات الكنيسة للتهدئة.. وقامت بحملة اعتقالات واسعة لشباب مسلمين ومسيحيين شعرت بأنهم علي وشك التصعيد.. وفي الوقت نفسه فرضت حراسة مشددة علي الكنائس والبيوت والأحياء التي توجد فيها نسبة سكانية كبيرة من غير المسلمين.. وكانت المرة الأولي التي أضيفت فيها شخصيات قبطية مميزة إلي قائمة الشخصيات الأولي بالحراسة.. إما خوفا علي حياتها.. أو مراقبة لتحركاتها.
وتسببت تهدئة الكنيسة في وقوف شباب الأقباط ضدها وتوجيه اتهامات قاسية لها وهو أمر يجب التوقف عنده.. فخروج الأجيال الجديدة عن طوع البابا والكهنة والأساقفة مع الضغوط النفسية المكتومة في صدورهم قد ينقل الخطر إلي مربع آخر.. مختلف.. مربع التنظيمات السرية المتطرفة التي سبق أن تواجدت في الخمسينيات ونفذت بعض عملياتها السرية ضد رموز دينية قبطية عليا.
ويضاعف من هذا الخطر الانقسامات التي عرفت طريقها للعلن بين رموز المسيحية الكنسية والسياسية.. فقد وصف الأنبا كيرلس النائبة جورجيت قليني بأنها " وش خراب " و" ناقصة عقل ودين " ومن جانبها اعتبرت كلامه "نفاقا للمسلمين " بعد أن قام بتغيير أقواله ووافق علي تحويل المذنب إلي بريء.. وساندها في ذلك القمص عبد المسيح بسيط استاذ اللاهوت الذي تصدره الكنيسة للتعبير عنها في شرح موقفها من القضايا المسيحية الشائكة.. وقد أضاف إن محافظ قنا اللواء مجدي أيوب هو "أسوأ محافظ رغم أنه مسيحي".. "فقد تسبب في إذلال الأقباط".. ويعني ذلك كله أن الفتنة أصبحت مسيحية أيضا.. وهو ما يعكس حالة ضعف ظاهرة للبابا شنودة نفسه.. جعلته غير قادر علي السيطرة الكاملة.
لقد ظهر ذلك بوضوح في قداس عيد الميلاد.. حيث تمالك البابا نفسه بصعوبة.. واختصر المدة التي عود المصلين عليها من قبل.. ونسي علي ما يبدو ما كان يحفظه.. فكان علي مساعديه الإشارة إلي النصوص التائهة من الكتاب المفتوح أمامه.. ولعل هذه الحالة غير المشهورة عنه بسبب حالته الصحية المعروفة أغرت شخصيات قريبة منه بالسعي إلي تزكية نفسها لخلافته وهو لا يزال قائما بينها.. وراح كل منها يدعو لنفسه بطريقته.. وإن وجدوا جميعا في ملف الفتنة ما يغري بالاستخدام.
ويخطئ من يتصور أن حادث نجع حمادي سيكون الأخير.. فأسباب الفتنة جاهزة في الميكروفونات والتفسيرات والعشوائيات والفضائيات.. لا تستهدف المسيحيين وحدهم وإنما تصر علي تفتيت وحدة المصريين.. وتقسيم بلادهم علي خريطة طائفية.. كما في دول أخري حولنا.. السودان والعراق ولبنان.. مثلا.. ولا أريد أن أعيد نشر ما أصبح محفوظا من خطط إسرائيلية مكتوبة ومعروفة.. وقد استهترنا بها.. واستسهلنا تفسيرها بنظرية المؤامرة.. وكأن هذه النظرية لا وجود لها.. والحقيقة أنها قائمة وساخنة وقادرة.. لكنها.. في الوقت نفسه تعتمد علي ضعف الجسد المصري.. وتتسلل عبر جروحه مثل الميكروبات والفيروسات لتحتل شرايينه.. وتهزم مناعته.. وتقضي عليه.. ولو أغلقنا تلك الجروح ستعود كل هذه القوي الشريرة خائبة ومهزومة وحزينة.. لكننا.. لا نفعل ذلك.. ولا نفكر فيه.. بل علي العكس.. نفتح لها مزيدا من الجروح والشقوق.. ونضاعف من فرصها في الغزو والاقتحام، وأولي خطوات العلاج أن نعترف بالمرض.. ونؤمن بوسائل الطب الحديثة في الشفاء منه.. ولا نكتفي بإطلاق البخور لحرق عين الحسود.. وعين العفريت.. وتعويذة وحدة الهلال والصليب.. ورغم ما يبذله الأمن من مجهود لا يمكن إنكاره فإنه ليس الطبيب المختص.. فالمشكلة اجتماعية وثقافية وسياسية وليست جنائية.. إن الملف يجب ألا يكون له سوي مسئول واحد.. هو الرئيس.. لا نقول ذلك من باب إلقاء كل شيء عليه كما تعودنا.. ولكن.. لأن الوحدة الوطنية هي مسئوليته الأهم التي تأخرنا طويلا في الحفاظ عليها حتي كادت تضيع منا.
وإعلان الرئيس عن اهتمامه المباشر بهذا الملف سيجعله الشغل الشاغل للأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية والصحف المستقلة والحزبية قبل القومية.. والأهم أنه سيكون بمثابة إنذار يخيف كل من يلعب في الخفاء من مسئولين كبار وصغار بالنار.. وسيضع رجال أعمال هنا وهناك ــ يحرضون ويمولون ويعبثون ــ عند حدهم.. وسيحفز نواب البرلمان علي تشريع القوانين التي تسد الذرائع وتوحد الصفوف.. مثل قانون دور العبادة الموحد.. وقانون إلغاء خانة الديانة من البطاقات الشخصية.
في سنوات ثورة 1919 كان في الأزهر الشريف رواق يسمي رواق الأقباط يدرسون فيه الشريعة الإسلامية.. أما الآن وبعد نحو تسعين سنة لا يقدر قبطي علي دراسة الطب في جامعة الأزهر.. وفي عصر الليبرالية السياسية كان عناق الهلال والصليب معبرا عن التسامح.. أما الآن فإن التصاق الجامع بالكنيسة أصبح رمزا للتعصب.. ما أن يشيد الأقباط كنيسة حتي يسارع المسلمون ببناء مسجد بالقرب منها.. وهو أمر يستحق الثناء لو خلصت النوايا.. ولكن.. مع سخونة الفتنة يبدو ذلك التلاصق قنابل لهب في مخازن كبريت.. كلمة واحدة.. ويشتعل الجميع.. وهو ما يفرض علينا وضع قواعد قانونية صارمة تحدد المواصفات والمسافات.. وخوفا من أن يأتي يوم يكون القتل فيه علي الهوية علينا من الآن إلغاء خانة الديانة في الهوية.
لقد حاربنا الإرهاب الديني وتصدينا له بكل ما كان فيه من تمرد وعنف.. بالكلمة.. بالفتوي.. بالخوف علي وطن ليس لنا سواه.. فكيف نشعل النار في أنفسنا حتي نحرقه؟.. إن الذين واجهوا الإرهاب سيواجهون الطائفية.. فلن نجني ــ علي اختلافاتنا الدينية ــ سوي الشوك لو لم نزرع غيره.
------------------------
(1) وليت الحوادث توقفت على هذا : وآخر الحوادث الآن في مطروح
(2) هذا عار من الصحة ، فلو خطف مسلم فتاة مسيحية ، تتحول أجهزة التدولة لتسهيل اغتصابها ثم أسلمتها فيما بعد
(3) وهذا أيضا كلام بلا دليل ، مجرد ظنون لتعديل الكفة بين همجية المسلمين وسكوت الأقباط