For God so loved the world, that he gave his only begotten Son, that whosoever believeth in him should not perish, but have everlasting life.

الاثنين، ٢٣ ذو الحجة ١٤٣١ هـ

الإعجاز العلمى بين بنت الشاطئ وزغلول النجار

الإعجاز العلمى بين بنت الشاطئ وزغلول النجار


بقلم خالد منتصر

 

منذ أربعين سنة، كتبت د. عائشة عبدالرحمن، المعروفة بلقب بنت الشاطئ، فى جريدة «الأهرام» عدة مقالات تهاجم فيها المروجين لنظرية الإعجاز العلمى فى القرآن، التى كان رائدها حينذاك د. مصطفى محمود.

دارت معركة حامية الوطيس بين الاثنين واستخدمت فيها بنت الشاطئ مدفعيتها الثقيلة من الحجج المفحمة والمنطق المتماسك والتمكن الواثق والعلم الفياض والبلاغة الجميلة، مما جعل مقالاتها مرجعاً مهماً لا غنى عنه لكل من يتعرض لقضية الإعجاز العلمى، تم تجميع المقالات فى كتاب صغير الحجم، عظيم القيمة، أتمنى من مكتبة الأسرة إعادة طباعته، فندت بنت الشاطئ فى هذا الكتاب كل ما يستند إليه أصحاب نظرية الإعجاز العلمى وأثبتت تهافت نظرياتهم، انطلاقاً من حرصها على الدين وقدسيته، ولم يجرؤ أحد على أن يقترب من منطقة تكفيرها أو اتهامها بتشويه الإسلام، ذلك لأن بنت الشاطئ لا يستطيع أحد أن يزايد عليها فى إسلامها وتدينها وعلمها ودفاعها المستميت عن صحيح الدين.. بعد هذه المقالات ظن الجميع أن قضية الإعجاز العلمى قد حسمت، ولكن فى مجتمع يكرر نسخ أفكاره كل عشر سنوات ودائماً لا يحسم خياراته، هيهات أن تقول مثل هذا القول..

 

فالمجتمع المصرى مازال يمارس هوايته فى سكنى المربع رقم واحد وممارسة تمرين الجرى فى المكان، أطلت قضية الإعجاز العلمى بكثافة وإلحاح أكثر مما قبل، صارت للإعجاز مؤتمرات يصرف عليها مئات الملايين من الريالات، وصار له مريدون يهربون من الخواء العلمى الذى يعانى منه المسلمون ليرتموا فى أحضان وهم الريادة والزعامة والسبق، وصارت ترعاه أسر حاكمة تريد إلهاء شعوبها عن التفكير فى مشاكلها الحقيقية بإغراقها فى الغيبيات وإيهامها بأنها تملك شفرة العلم التجريبى فى سطور المقدس الدينى، وأن كل ما عليها هو أن تبحث بين هذه السطور عن نظريات الفيزياء ومعادلات الكيمياء، رغم أن الله قد أمرنا بالسير فى الأرض والبحث فى الواقع وقراءة الطبيعة والعالم،

 

صار رائد هذا الاتجاه المعاصر فى طبعته الجديدة د. زغلول النجار الذى ينتظر النظريات العلمية التى يكتشفها الغرب حتى يقول إنه بحث فى القرآن أو الأحاديث فوجدها متخفية فيما بين السطور، ولم نسمعه يفعل العكس فيخترع من النص المقدس القديم نظرية علمية جديدة لم يعرفها هؤلاء الأجانب الذين يضيعون وقتهم فى المعامل ويلهون فى مراكز الأبحاث، لذلك كان لابد أن نستدعى روح بنت الشاطئ فى أهرام السبعينيات لنرد على زغلول النجار فى أهرام القرن الحادى والعشرين.

 

ما كتبته منذ سنوات عن القضية نفسها هو نقطة فى بحر علم هذه السيدة الرائعة، أحتمى بقامتها العظيمة العملاقة من سهام التكفير المسمومة، فمن ينتقد كل من يناقش الإعجاز العلمى ويفنده يتم اتهامه بأنه غير متخصص، ماذا سيقول هؤلاء عن بنت الشاطئ.. هل سيتهمونها بعدم التخصص.. هل سيتهمون أستاذة التفسير فى كلية الشريعة بجامعة القرويين فى المغرب والأستاذة الزائرة فى الخرطوم والإمارات وبيروت والرياض بأنها غير متخصصة.. هل سيتهمون صاحبة جائزة فيصل وعضو مجمع البحوث الإسلامية بأنها غير متخصصة.. هل سيتهمون أهم من كتب سيرة نساء النبى، ذلك المرجع الذى يقتبس منه شيوخ الأزهر أنفسهم ويعتمدون عليه فى أبحاثهم بأنها لا تفهم فى الدين؟!

 

مع اقتراب ذكرى رحيل تلك السيدة الرائعة (١ ديسمبر)، سنقرأ معاً صفحات من أهم معاركها التى نحتاج إلى تأملها فى زمن البيزنس الدينى.

 

كلام دعاة الإعجاز العلمى يبدو فى ظاهره معقولاً وبالطبع نحب سماعه وتصديقه، فمن منا لا يريد إيهام نفسه بأنه أفضل من الغرب، ومن منا لا يريد خداع نفسه بأن لديه، فى نصوصه المقدسة، خزائن العلم الحديث، ولأننا نفكر فيما نتمنى وليس فيما هو حادث فى الواقع بالفعل، فقد أدمنا حلم الإعجاز الوردى. جاءت بنت الشاطئ لتقلقنا وتوقظنا من كسلنا وتخديرنا اللذيذ، وتقول إن مزالق التفسير العلمى للقرآن تمسخ العقيدة والعقل معاً، ما هو هذا المزلق الخطر؟، تقول بنت الشاطئ: «يتسلل إلى عقول أبناء هذا الزمان وضمائرهم أن القرآن إذا لم يقدم لهم علوم الطب والتشريح والرياضيات والفلك والفارماكوبيا وأسرار البيولوجيا والإلكترون والذرة فليس صالحاً لزماننا».

 

ترجع د. بنت الشاطئ موضة الإعجاز العلمى إلى عقدة النقص التى استغلها دعاة الإعجاز فباعوا لنا المخدر على هيئة كلام خلاب يجذب الأسماع عن سبق القرآن إلى النظريات العلمية، وتقول أستاذة التفسير: «ما علينا مثلاً أن ترتاد روسيا مجاهل الفضاء، وأن تهبط أبولو على سطح القمر، فلدينا من كل ذلك ما يغنينا عن التعلق به والسعى إليه، وعندنا مفسر عصرى يقدم لنا كل علوم الدنيا، ويضيف إليها علم الغيب والحياة الآخرة»!!

 

تؤكد أستاذة التفسير أن الألفاظ يختلف استعمالها من عصر إلى عصر ومن بيئة لأخرى ولا وجه لأن نحمل كلمة فى أى نص دلالة لا يعرفها عصره ولا مجتمعه، فالقرية فى القرآن مثلاً ليست قرية التقسيم الإدارى الحديث، وكذلك الساعة ليست الستين دقيقة باصطلاحها المعاصر.. وهكذا، وتؤكد بنت الشاطئ أيضاً أن من وجوه الدقة القرآنية استحالة تفسير عبارة مبتورة من سياقها الخاص فى الآية ومن سياقها العام فى المصحف كله، ولذلك فلا يصح لدعاة الإعجاز العلمى الاستشهاد بقوله تعالى «وإن منها لما يهبط من خشية الله» للدلالة على دك الجبال يوم القيامة، لأنهم بذلك بتروها من سياقها فى قوم موسى والتى لا علاقة لها بدك الجبال يوم القيامة!!

 

تصف بنت الشاطئ من يقبل الإعجاز العلمى بأنه يتخلى عن منطق عصره وكرامة عقله وكبرياء علمه وهى ترفض ذلك وتتساءل: «هل أعيش فى عصر العلم بمنطق قريتى حين يفد إليها الباعة الجوالون بألف صنف، يروج لها ضجيج إعلانى بالطبل والزمر عن كل شىء لكل شىء، أو بتاع كله؟»!!، وتشبه بنت الشاطئ داعية الإعجاز بأنه «لا يلبث أن يخرج على الناس وفى جرابه طرائف وغرائب من كل علوم العصر، ومعها مكتشفات من مجاهل الميتافيزيقا»، و«أرانا اليوم نواجه فى عصر العلم من ينتحلون الدراية بكل علوم الدين والدنيا، ومن يخوضون فى الغيب فيفسرون لنا آيات القرآن فى الساعة والقيامة بما لم يأت به نص، ولا كشف عن غيبه علم».

 

لكن ما هى الأدلة المفحمة التى أوردتها د. بنت الشاطئ فى تفنيدها لخطأ مقولة الإعجاز العلمى؟

جمعت بنت الشاطئ، فى كتابها الذى ردت فيه على دعاة الإعجاز العلمى، أدلة متعددة على عوار المنهج الذى اتبعوه وفساد الاستدلال الذى صدروه للجمهور، الذى يصرخ إعجاباً مع كل مثال يقتبسه هؤلاء لإثبات الإعجاز العلمى، الكارثة هى أن القرآن نفسه لم يطلب منهم أن يبحثوا فيه عن إعجاز علمى، بل طلب منهم أن يسيروا فى مناكب الأرض، والرسول نفسه لم يشغل باله بالغوص فيما وراء النصوص من إشارات فيزيائية وكيميائية، بل طالب المسلمين بالعمل وطلب العلم، حتى الأمور الطبية أحالها للمتخصصين ولو كانوا أطباء يهوداً من ذوى الخبرة، لكن بيزنس العصر جعلهم يلوون عنق النص، ويشوهون اللغة العربية ويشقلبون معانيها ويستخلصون منها ما لا تقصده الكلمات.. كل هذا العبث من أجل غرض وقتى زائل سينسف الدين والعلم على السواء، يغازلون بسطاء الناس وعامة الجماهير وأنصاف المثقفين من أجل آهات إعجاب زائفة لا يمكن أن تزيل الغبار عن تخلفنا الحضارى.

فضحت المدرسة اللغوية والتفسير البيانى لبنت الشاطئ تلاميذ مدرسة الإعجاز العلمى والتفسير العصرى الذى يستخدم لغة الفيزياء والكيمياء لشرح كلمات كان يستعملها البدو منذ ألفى سنة بمعناها البسيط المباشر الذى كان يعبر عن روح هذا العصر، ولم يكن يدور فى خلدهم، إطلاقاً، أنه سيستخدم كمرادف وتفسير للضغط الأسموزى وحركة الإلكترون وتركيب الـ«دى إن إيه»، وكان أشهر هذه الأمثلة التى استخدمتها بنت الشاطئ وأكثرها إفحاماً هو مثال بيت العنكبوت الذى يستخدم لخداع السذج ممن يلتمسون الانتصار العلمى فى نص لا فى فعل، نص نزل أساساً للتعبد ومنح المؤمن المعانى الكبيرة لا التفاصيل الصغيرة التى تركها لنا القرآن ولعقلنا وتدبرنا.

يقول الإعجازيون عن تأنيث العنكبوت فى آية «مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً»، إنه إعجاز لأن العلم كشف مؤخراً أن أنثى العنكبوت هى التى تنسج البيت وليس الذكر، ولذلك قيل اتخذت وليس اتخذ!، وترد بنت الشاطئ, قائلة: «يعرف المبتدئون من طلاب العربية أن القرآن جرى هنا على لغة العرب الذين أنثوا لفظ العنكبوت من قديم جاهليتهم الوثنية، كما أنثوا مفرد النمل والنحل والدود فلم يقولوا فى الواحد منها إلا نملة أو نحلة أو دودة، وهو تأنيث لغوى لا علاقة له بالتأنيث البيولوجى كما يتوهم المفسر العصرى، وجرى لسانهم كذلك على تأنيث الشمس والأرض والدار والسوق، وكل ما يعرف فى المصطلح اللغوى بالتأنيث المجازى، دون أن يتصور من له أدنى اتصال بالعربية أن التأنيث هنا يحمل على التأنيث البيولوجى»!!، ثم استكملت استشهادها المفحم بآيات مثل «قالت نملة..» و«بعوضة فما فوقها»... إلخ، وقالت: «قبل هذه الآيات كان أى عربى وثنى من أجلاف البادية ينطق بها على التأنيث دون أى إشارة علمية إلى ما اكتشفه علماء البيولوجيا والحشرات»!!.

الأمثلة التى أوردتها بنت الشاطئ كثيرة ولكن هل ستقف مدرسة الإعجاز العلمى عن الاختراع والفبركة؟، وهل سيفهم هؤلاء أن عدم وجود الفيزياء والكيمياء فى القرآن ليس انتقاصاً من هذا الكتاب المعجز فى معانيه وبيانه؟، أعتقد أن المدرسة ستستقبل تلاميذ أكثر وأكثر طالما اتسعت الفجوة بيننا وبين الغرب، وطالما ظللنا, كما قال نزار قبانى, لابسين قشرة الحضارة والروح جاهلية.