كنت متدينا ... والآن أبصر -3- الآخر
بقلم ابراهيم القبطي
في المقال السابق توقفت على أهمية الرؤية (1) التي تهبنا اللقاء مع الإله ، ثم تحدثت على نتيجة أساسية من نتائج هذه الرؤية ، وهي التطور الإنساني من مرحلة الزواحف التي يحيا فيها المتدين (المعتقد) و اللا منتمي إلى مرحلة أطلقت عليها "أجنحة النسور" التي تؤهل الإنسان إلى أن يرتفع فوق اسوار العقائد فيتخطى مرحلة الانتماء الديني واللا انتماء على السواء إلى مستوى الرؤية والحرية (2)
هذه الرؤية من يختبرها يعلم أنها لا تقف عن حد الخبرة الإنسانية بما هو إلهي ، بل يكتسب فيها الإنسان المبصر عيون المسيح التي تهبه القدرة على رؤية وقبول الآخر ... والآخر هو ايضا الإنسان بكل سقطاته وآلامه وآماله ، وبكل إنسانيته.
الأخر هو التحدي الحقيقي لأي فكر أو عقيدة ، لأن الآخر هو العلاقة الإنسانية بكامل معانيها ، ولهذا فهي تختلف بين عالم المتدين وعالم اللامنتمي وعالم المؤمن المبصر
---------------
الآخر ... العدو :
يتفق جميع المعتقدين (المتدينين) في أن الآخر هو العدو الذي يحيا داخل أسوار أخرى تخالف أسوار عقيدتهم ، هذا الآخر يمثل خطرا على الكيان القبلي لأي عقيدة ، فالآخر هو الكافر والذمي والمرتد في الإسلام ، وهو الجوييم (3) بالنسبة لليهود ، وهو الطائفة المنحرفة المهرطقة عند بعض المسيحيين ، وهو الكافر بالآلهة من الفلاسفة والمفكرين في اليونان القديمة مثل سقراط الذي أنكر آلهة الأوليمب (4) ، هذا الآخر دائما ما يكون موضوعا للكراهية ، وللقهر من الأغلبية المخالفة ، وجوده دائما يمثل تحدي للشعور المزيف بالآمان الذي تمنحه أسوار الاعتقاد والشريعة في أي مؤسسة دينية أو فكرية ، لأنه يمثل البطة السوداء في بحيرة البجع البيضاء ...
ولكن إن اتفقت كل العقائد والموروثات في كراهية الآخر المخالف ، إلا أنهم اختلفوا في طريقة التعامل مع المخالف ، كلٌ بحسب نصوصه الدينية ، لأن أسوار العقيدة والشريعة أحجارها من النصوص ، ومن خلال نصوص الدين يظهر الأخر في عيون المتدين
فالهندوس دينيا يعتبرون أي شخص لا ينتمي إلى أي من الطبقات الدينية الأربعة في الهندوسية (5) منبوذ (Untouchable) لا يستحق التعامل معه ، والبوذيون في الوقت الذي يمتنعون عن قتل أي الكائنات الحية هربا من الكارما ، إلا أنهم ينبذون الحياة نفسها والذات الانسانية من اجل النرفانا ، فالحياة باكملها هي العدو والآخر المنبوذ ... إلا أنهم في الأغلب يكتفون بتجاهل الآخر ونبذه
أما اليهود يمارسون مرحلة أقوى من النبذ وهي اعتزال المخالفين ، لأن طبيعة الدين اليهودي غير توسعية ، فيؤثر اليهودي دائما أن يُترك في حاله لينعزل ويحيا في ارضه بلا تدخل خارجي ، ولهذا كان اليهودي بعد سقوط أورشليم عام 70 م (6) دائما ما يكوّن جيتوهات معزولة في أرض شتاته ، وفيها يحقق نوعا من الهروب الثقافي والديني بدلا من الهروب الجغرافي الذي حققته له أرض الموعد التوراتية قديما ، أما حديثا فقد استعاد اليهودي الصهيوني عزلته الجغرافية داخل حدود أرض اسرائيل ، واليهودي بسبب ثقافة الإنعزالية يتقن فن الدفاع وتحصين قبيلته جغرافيا أو ثقافيا ، ويميل دائما إلى بناء الأسوار سواء نفسيا أو فعليا … لعل أوضحها بناءه خط بارليف في السبعينات لتعزله عن جيوش العرب ، وبناءه الجدارالعازل للمستوطنات الفلسطينية حاليا لتعزله عن هجمات الفلسطينيين …
في المقابل ، يتقن المسلمون في عقيدتهم فنون الهجوم والتوسع والغزو أكثر من أي دينة أخرى على الأرض ، لأن ثقافتهم -على عكس ثقافة اليهود - قرآنيه توسعية استيطانية ، فهم يميلون في التعامل مع الآخر إلى ثقافة الحرب والجهاد . وعلى النقيض من أبناء عمومتهم اليهود ، المسلم بحسب عقيدته يتقن فن الهجوم سواء بالخديعة ، وتشمل استحلال الكذب والتقية ، او بالمواجهة في أوقات القوة بشن حروب شاملة تأكل الأخضر واليابس …
و في حالة إخضاع المسلم للآخر يتم إما تصفيته جسديا لو كان كافرا أو مرتدا ، أو إذلاله لو كان ذميا و محاولة إجباره على الإسلام تحت ضغط الجزية أو الترغيب بالاموال كما فعل رسولهم بالمؤلفة قلوبهم (7)
أما المسيحيون الوارثون لعقيدتهم (8) ، فهم لا يملكون إلا رفض الآخر دون أن يملكوا نصوص إنجيلية تساعدهم على إتخاذ موقف دفاعي كاليهود أو هجومي كالمسلمين ، ولهذا دائما ما يلجأ المسيحي المعتقد إلى الاستعارة ، ففي أوقات الضعف يستعير الجيتوهات اليهودية فيحيا داخل عزلة ثقافية ، كما يظهر من حالة الكثير من الأقباط في وقتنا المعاصر ، وفي بعض حالات القوة يستعير ثقافة الحرب الإسلامية ، لهذا كان منشأ فكرة الحروب الصليبية في الثاقفة الغربية هو استعارة لفكرة الجهاد من الإسلام كوسيلة لرد العدوان الإسلامي على أوروبا .
في كلتا الحالتين - سواء هجوما أو دفاعا- يفشل المسيحي بعقيدته الموروثة في قهر الآخر أو الهروب منه … فتظل أزمته الحقيقية نابعة من عجز النص الإنجيلي عن ايجاد مبرر كافي لكره الآخر
---------------
الآخر ... الجحيم :
أما اللامنتمي أو المتمرد على العقائد والاديان فثقافته يحكمها عدم الإنتماء لأي من القبائل الدينية ، لهذا يشعر اللامنتمي بوحدة قاسية تجعله يرى نفسه فردا لا يملك أي علاقة حقيقية بمجتمع أو بآخر ، فهو يملك وعي قوي بذاته وفرديته لا الآخر ، ولأن عالم اللامنتمي هو عالم خارج الأسوار وبلا معالم واضحة ، فمرجعية المنتمي دائما تكون نفسه ، لأنه استعاض عن أسوار العقيدة باسوار نفسية داخلية تجعله فردا وحيدا لا علاقة له بأي آخر .
ولعل أقوى من عبّر عن علاقة اللامنتمي بالآخر هو جان بول سارتر في فلسفته الوجودية ، وفي مفهوم ساتر الوجودي يتعبر العالم الخارجي بلا وجود حقيقي خارج الوعي الإنساني ، لأن الإنسان كفرد هو من خلق عالمه وكوّنه بوعيه ، لهذا يصبح العالم الخارجي أي فرد مجرد صناعة داخلية ، أما العالم الخارجي في ذاته (In-itself) فلا يمكن إدراكه وبالتالي لا وجود حقيقي له ، ولأن الوعي الإنساني الفردي بهذه الطريقة يصنع عوالم فردية ، فكل إنسان محكوم بعالمه ولا يمكن التواصل الحقيقي مع الآخر ، ولهذا عندما يعي الإنسان الفرد ويدرك نفسه في فكر سارتر - يهبها الوجود ، وفي المقابل عندما يحاول أن يعي الإنسان الآخر يفقد وجوده هو الشخصي ليمنحه لآخر (9). مما ينتج عنه أن أي علاقة مع الآخر فيها نفي للذات ، وبالتالي فالإنسان محكوم بعذاب أبدي بين الرغبة في الوجود والرغبة في التواصل مع وجود الآخر ، ولا يمكن الحصول على الإثنين معا ، وقد عبّر جان بول سارتر عن هذه الحقيقة المفجعة للوجود الإنساني كما رآه بأن الآخر هو الجحيم (10) ، فوجود الآخر هو انتفاء لوجود الذات ، والعكس صحيح ، لهذا تصبح أي علاقة إجتماعية جحيم ... وأي علاقة حب للآخر مستحيله .
ولأن الآخر يشمل أيضا الإله ، فنجد اللامنتمي في أكثر حالاته تمردا وإلحادا يشخص إلى السماء قائلا "أبانا الذي في السماوات ... ابق فيها ، ونحن سنبقى على الأرض" (11) ، لأن الوعي بوجود الإله كآخر فيه انتفاء لوجود الإنسان الواعي بهذا الإله.
ولو طبقنا هذه الحقيقة على الإلحاد واللاأدرية المعاصرة ، لوجدنا أن معظم الملحدين المعاصرين لا يمكلون نقاء الفكر الإلحادي او اللاإنتمائي كسارتر ، بل يحاولون باستمرار الهروب من هذه الحقيقة المفجعة ، ودائما ما يصبغون كتابتهم بفكر إنساني راقي ، ولكنه لا يعدو كونه فكر فردي نسبي لا يمثل إلا رأي قائله من عالمه الخاص ، ولهذا أي محاولات للدفاع عن حقوق وحرية الإنسان يقوم بها ملحدون أو لا أدريون تتميز بالصدق والفردية معا ، فالملحد صادق حقا في أنه يريد حقوقا وحرية للإنسان ، ولكنه يعني أيضا في قرارة ذاته أنه هو فقط هذا الإنسان لا الآخر ، لأن الملحد لا يملك إلا أن يتكلم عن أو يمثل إلا نفسه فقط ، ومرجعيته للحقوق هي شعوره الداخلي النسبي ، ولا يملك أي مرجعية أخلاقية تتخطي ذاته وتجعله يطالب بالحرية للآخر ...
لهذا أكد بارت ايرمان (Bart Ehrman) الملحد الامريكي المشهور في أنه سعيد بحياته يشرب ويأكل ويرقص ويستمتع بكل ما هو متاح ، لأن هذه الحياة ليس هناك حياة بعدها ، أما عن الآخر ، فهو يتعاطف مع المشاكل الإنسانية ويحاول أن يساعد بالتبرعات بقدر ما تسمح حالته المادية ، ولكنه لن يتخلى عن مستوى معيشته أو يضحى بحياته من أجل الآخر الذي شاءت الظروف أن تضعه في مجاعة او حرب أو وباء (12)...
فهو إذن يساعد بقدر ما تساهم المساعدة في اسكات ضميره ، ولكنه حقيقة لا يستطيع إلا أن يهتم بنفسه ، لأن عالمه يدور في فلك ذاته ... حرية بلا معنى ...
العالم إذن خارج الأسوار الدينية عالم يتكون من وحدات بشرية منفصلة حرة لا تملك علاقات بشرية حقيقية مع بعضها ، لأنه في الوقت الذي تحاول فيه هذه الوحدات الاقتراب من الأخر ، يحدث التحام ثم تصادم وسقوط ، وتفقد الوحدة البشرية المفردة حريتها تماما ويصبح الآخر -أي آخر- هو الجحيم بعينه ...
وكأنما الإنسان اللا منتمي محكوم بأن يمارس إما الحب أو الحرية ... لو أحب الأخر فقد ذاته وحريته ، ولو تحرر من الأخر فقد الحب ...
---------------
الآخر ... المحبوب :
الإنسان في أعلى مراحله ينفتح وعيه الروحي ليرى الإله بعيون الايمان ، ولأن عيون الروح كما عيون الجسد - أبواب ومنافذ للنور الساقط عليها - فبعيون الايمان يمتلئ الإنسان بالنور الإلهي الساقط عليها ، أي نور المسيح ، وبهذا الحضور الإلهي داخله يستطيع أن يمارس الحرية والحب معا ... لأنه يملك الفردية التي تألهت في المسيح .
وللتوضيح يمكننا أن نمثل الصراعات بين الداخل والخارج في اسوار العقائد ، أو بين الذات والآخر عند اللامنتمي ، كصراعات تحدث في عالم ثنائي الأبعاد من بعدين (داخل /خارج) :
فالمتدين (المعتقد) مرجعيته سور العقيدة ، والعدو هو من يحيا خارج السور
أما اللامنتمي مرجعيته ذاته ، وكل ما هو خارج عن ذاته الفردية هو الجحيم ، فهو حر بقدر ما يسمح جحيمه الخاص .
وكلا من المعتقد واللامنتمي يتصارعون حول حرية محدودة لها أسوار صارمة قاسية ، فلو حطم المعتقد أسوار عقيدته ، سيخرج من القفص ليواجه اسوار أشد مصنوعة من جحيمه الخاص ، حيث حرية مظلمة يائسة ، مما يجعلنا نشك إن كانت هذه هي الحرية حقا .
لكن بإضافة المسيح - كإنسان وإله معا - إلى معادلة الوجود الإنساني يتحول عالم المؤمن به إلى عالم ثلاثي الأبعاد بإضافة بعد فيه عمق وارتفاع ، فأسوار العقائد يراها المؤمن كما لو كانت خطوط سياسية وهمية بين دول على خريطة ، يرى الصراع من اعلى ويتألم ، وفي عالمه الثلاثي الأبعاد ، تختلف حدود حريته ، لم تعد مرجعيته الأسوار العقيدية ، ولا مجرد عالمه الخاص ، بل مرجعيته المسيح الساكن في عالمه الخاص ، بعيون الايمان يرى حدود حريته الأفق الرحب ، وهي رؤية تتسع دائما وأبدا بقدر ما يحلق المؤمن بأجنحة النسور إلى أعلى ، فيرى مساحة أوسع من الحرية ، وبقدر ما تزداد رؤيته حدة وقوة ، فلا مجال لتحديد أو تقييد في المسيح (13) ... بل هي رحلة لانهائية من حرية إلى حرية اعلى ، ومن مجد إلى مجد اعظم .
هذه الحرية هي التي تؤهل المؤمن أن يرى الآخر بعيون المسيح ، ولأنه ممتلئ بالمسيح ، فقبوله للآخر ووعيه به لا يُفرغ ذاته من الوجود كما أعلن سارتر في فلسفته ، لأن وجود المؤمن ملتحم بالوجود الإلهي ذاته الذي لا يفنى ، ولأن المؤمن يدرك ايضا أن وجوده أو وجود الآخر ليس نتاج خلق وعيه الشخصي بل نتاج وعي المسيح الساكن فيه به وبالآخر ، لهذا رؤية الأخر بعيون المسيح تمنح الإنسان القدرة على قبول الآخر كشريك إنساني كامل الاهلية ، وهو قبول لا يقف عند عرق أو جنس أو انتماء (ديني أو سياسي) أو لون ، أو مستوى مادي أو اجتماعي أو جمالي ، او لغة أو ثقافة ، أو حتى أخلاق ، فتلك الرؤية الروحية تفتح قلب الإنسان في المسيح لقبول الآخر مهما أختلف داخليا أو خارجيا ، ومهما كان تطوره الإنساني .
هذا القبول الغير مشروط للآخر يمثل مشكلة لكل من المعتقد واللامنتمي لمحدودية عالمهم وأسوراهم ، ولكنه للمؤمن يمثل مغامرة شيقة ، يحاول فيها اكتشاف الآخر ، والتفاعل معه وسكب الحب الغير مشروط تجاه الآخر دون خوف من فقدان للحرية أو للوجود أو الذات أو الحياة ... فالآخر إذن بعيون المسيح هو المحبوب ، وحريته وحقوقه تمثل امتداد لحرية المؤمن وحقوقه ...
ولعل أكبر مثال على هذه الحرية وهذا الحب ما سجله التاريخ من أحداث في عام 252م ، عندما أجتاح وباء الطاعون شمال أفريقيا (252-254 م) ، وأجزاء اخرى من الامبراطورية الرومانية ، فكان المؤمنون بالمسيح أول من بذلوا ذواتهم لتمريض المرضى ، على الرغم من ان أصحاب الديانات الأخرى كانوا يلقون بأهاليهم المرضي في الشوراع خوفا من الاصابة ، وقد وقف الأسقف كبريان Cyprian أسقف قرطاج وقتها داعيا كل مؤمن حقيقي لرعاية المرضى من كل الطوائف والفئات ، فسقط الكثير من المؤمنين بالمسيح صرعى الطاعون ، ومع ذلك لم يتوقف أي منهم عن رعاية المرضى المنبوذين في الشوارع (14)
----------------------
بين عالمين ...
ولكن المؤمن في المسيح مازالت له آلامه وصراعاته ، فهو يرى الإنسان الآخر على نوعين ، نوع مثله يحلق في سماء الإيمان والرؤية ، ونوع آخر يزحف بين أسوار العقائد أو خارجها ، ولأنه يحب الجميع ، فهو يمارس حياة ثنائية ليجمع بين عالمين :
في لحظات من حياته يحلق برؤية المسيح مع المحلقين بأجنحة النسور ، ويمارس حب الحياة ، ويرقص معهم رقصات الخلود ، ويعزف موسيقا السماء . يرى الحياة بألوانها وأبعادها كاملة ...
وفي لحظات أخرى من حياته يضطر بدافع الحب ، وبملء الحرية إلى الهبوط إلى عالم الأسوار الثنائي الأبعاد ليشارك المعتقدين واللامنتمين حياتهم في محاولات مستمرة أن يجذبهم معه للقاء المسيح ، يحاول أن يحطم الأسوار ، بل وفي أوقات أخرى يحاول أن يفجّرها ، مرة يهاجم نصوصهم المقدسة ، ومرة أخرى يستعملها ، يحاول رسم ملامح المسيح ، ويراهم يمزقونها ، فيصرخ فيهم ، ثم يغضب لهم ومنهم ، يتألم لهم ومعهم وبهم ...
وأكثر من عاش هذا الألم ونقل لنا خبرته هو بولس الرسول ، الذي رأى المسيح ، واختبر عالم النسور ، ولكنه قرر أن يصارع الزواحف في عالمهم سواء يهودا أويونانيين أو رومان ، فوجد نفسه محصورا بين عالمين ، عالم اعلى يشتهيه ويريد أن يحيا فيه إلى الابد ، وعالم أدنى يحب ساكنيه ويريدهم معه في عالمه فأعلن قائلا في رسالته لأهل فيلبي :
"فاني محصور من الاثنين . لي اشتهاء ان انطلق واكون مع المسيح . ذاك افضل جدا. ولكن ان ابقى في الجسد الزم من اجلكم. فاذ انا واثق بهذا اعلم اني امكث وابقى مع جميعكم لاجل تقدمكم وفرحكم في الايمان " (15)
فالمؤمن إذن له الحرية في أعلى درجاتها ، ولكنه بملء حريته يسجن نفسه في عالم الأسوار وصراع الأجساد والعقائد ، والتمرد واللانتماء ، من أجل حبه للآخر الإنسان ، يبقى شطرا من حياته في عالم الأسوار ليصارع الحراس والعسكر من محترفي التدين والدين ، ويحاول أن يهز أركان العالم القديم هزا ، وأن يهدم اركان المعبد القديم كما فعل شمشون (16) ولكن دون أن يفقد نفسا واحدة ، لأنه يميز بين حبه للآخر وبين كرهه للأسوار التي يحيون داخلها أو خارجها ، كل هذا ليدفع الناس دفعا إلى أن يروا عالمه الحقيقي ...
أن يروا عالمه كما يراه بألوانه وبأبعاده الثلاثة ...
إلى أن يروا المسيح ...
---------------------------
هوامش ومراجع :
(1) راجع المقال الثاني (كنت متدينا والآن ابصر -2- الرؤية)
(2) وهذا يذكرني بقول طالما استغربت له من أقوال المسيح ، فعندما التقى المسيح بتلاميذه لأول مرة على بحيرة طبرية ودعاهما إلى اتباعه ، قال لأثنين منهما هلما ورائي فاجعلكما صيادي الناس . ولم أفهم وقتها لماذا شبّه المسيح دعوته بصيد الناس ، وبقليل من التفكر يتضح أن المسيح بدعوته الرؤيوية كان يدعو الناس من مستوى إلى آخر من الوجود ، بأن يحولهم من حياة كحياة الاسماك داخل المياة ، إلى حياة أكثر حرية خارجها ، يدعوهم لمرحلة تطورية تتخطى التطور البيولوجي إلى التطور الروحي ... لأن دعوة المسيح أساسها للإنسان ومن أجل الإنسان.
(3) الأمميين (http://en.wikipedia.org/wiki/Goy) وقد اعتبرهم اليهود في عصر المسيح كالكلاب
(4) http://en.wikipedia.org/wiki/Trial_of_Socrates
(5) رجال الدين ثم المحاربين ثم العمال ثم الفلاحين والتجار
(6) http://en.wikipedia.org/wiki/Siege_of_Jerusalem_%2870%29
(7) كما فعل محمد وسجلها في قرآنه
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
هذا القبول يميز بين الإنسان والحالة الإنسانية (التوبة 60)
(8) المسيحيون المعتقدون أو المتدينون بالوراثة ، وهم يختلفون عن المؤمنيين الذين اختبروا الإله في المسيح بحسب تعريف هذا المقال
(9) عبّر جان بول سارتر عن هذه الفكرة في كتابه الوجود والعدم (Being and nothingness)
(10) في مسرحيته المشهورة No Exist
(11) من قصيدة للشاعر جاك بريفير Jacques Prevert
(12) في مناظرة له ضد مايكل بروان Michael Brown حول فكرة وجود الشر والإله من منظور الكتاب المقدس اليهودي / المسيحي
(13) لأن طبيعته الإلهية لا نهائية بينما بشريته تلتحم بالإنسان فتهبه حريه لا نهائية
وهذه الحدود المفتوحة للحرية تنبأ بها زكريا النبي اليهودي في رؤيا عندما ظهر له غلام يريد ان يقيس حدود مدينة اورشليم ، فسارع ملاك بمنعه قائلا " كالاعراء تسكن اورشليم من كثرة الناس والبهائم فيها. وانا يقول الرب اكون لها سور نار من حولها واكون مجدا في وسطها " زكريا 2: 4-5
فحدود أورشليم أن تكون بلا حدود (كالاعراء) لأن حدودها هو الرب نفسه ... بلا نهاية
(14) Chapman, J. (1908). St. Cyprian of
(15) فليبي 1: 23 ، والمعنى الذي يعنيه بولس لا يقف عند العالم الآخر بعد الموت ، بل يتضمن أيضا التجربة الروحية التي عاين فيها المسيح والسماء الثالثة فرأى ما لم تره عين وما لم تسمعه أذن وما لم يخطر على قلب بشر ...
(16) سفر قضاة اصحاح 16