الرد على شبهة : أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم احد بهما
Newman
وقف المدرس في الصف امام التلاميذ وقال لهم، سوف اعقد امتحانا فجائيا بغير اعلان وقت محدد من الان، لكي اعرف من هو الطالب الذي يذاكر دروسه يوميا ويقوم بحل الاسئلة وتطبيقاتها مباشرة بعد انتهاء الدرس، ومن هو الطالب الذي يقضي وقته في اللعب واللهو ولا يكون مستعدا للامتحان في اي وقت، فوقف طالب اعتقد انه اذكي من غيره او اذكى من المعلم نفسه وسأله، ومتي يكون هذا الامتحان المفاجيء يا استاذ ؟
تقول القصة ان الاستاذ رفض اعطاء الوقت ولكي يحسم الامر نهائيا ويوقف الطلبة من تكرار السؤال، فاجابهم، لا اعرف الوقت، فقط كونوا مستعدين في اي وقت للامتحان المفاجيء.
فقال الطلبة، ان هذا الاستاذ لم يعطنا وقت الامتحان المفاجيء وبالتالي فهذا اثبات انه لا يعرف الوقت وبالتالي فهو ليس الاستاذ الذي سيضع الامتحان ولا يعرف ما هو الامتحان ولن نهتم لكلامه او امتحانه !!!
هل يعتقد احدا ان هذا المنطق هو منطق وتحليل سليم لموقف الاستاذ؟ هذا تماما ما يفعله البعض في بتر كلام المسيح من سياقه والخروج باستنتاج غير صحيح، يخدعون به انفسهم، لكي يهربوا من الحقيقة الصارخة ان المسيح هو الدّيان والذي سيأتي لاعلان الساعة بارادته الذاتية.
******************
حاول تلاميذ المسيح مرتين، ان يسألوه عن معرفة المواقيت مثل (الساعة) الوقت المحدد لانتهاء العالم الحاضر وبدء الدينونة بما يعرفه البعض باسم (يوم القيامة)، او بعض المواقيت التي اخفاها الله عن البشر، وقد كانت اجابة السيد المسيح لهذا السؤال مختلفة بحسب الموقف والوقت الذي تم تقديم فيه هذا السؤال، وتعالوا نستعرض كيف كانت الاجابة في كل مرة.
المرة الاولى:
عندما كان السيد المسيح يتمشي في اروقة وطرقات الهيكل، حدث هذا الموقف:
(1 وفيما هو خارج من الهيكل قال له واحد من تلاميذه يا معلم انظر ما هذه الحجارة وهذه الابنية. 2 فاجاب يسوع وقال له اتنظر هذه الابنية العظيمة.لا يترك حجر على حجر لا ينقض. 3 وفيما هو جالس على جبل الزيتون تجاه الهيكل ساله بطرس ويعقوب ويوحنا واندراوس على انفراد 4 قل لنا متى يكون هذا وما هي العلامة عندما يتم جميع هذا.)
(مرقس 13: 1 - 4)
نفس الموقف يرويه البشير متىّ بهذه الصورة :
( ثم خرج يسوع ومضى من الهيكل.فتقدم تلاميذه لكي يروه ابنية الهيكل. 2 فقال لهم يسوع اما تنظرون جميع هذه.الحق اقول لكم انه لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض 3 وفيما هو جالس على جبل الزيتون تقدم اليه التلاميذ على انفراد قائلين قل لنا متى يكون هذا وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر)(متى 24: 1 - 3)
يحاول البعض من غير المسيحيين (سواء مسلمين او شهود يهوه) استخدام هذا النص بتفسير خاطيء خارج عن سياق النص، في القول بأن هذا الكلام اثبات نفي لاهوت السيد المسيح عن نفسه، ولكن في الحقيقة ان هذا الاعلان في سياقه ليس الا اثبات ناسوت المسيح، وقد قلنا اكثر من مرة، ان نفس اللاهوت لا يكون باثبات الناسوت، والاجابة المنطقية السليمة يجب ان تأخذ النص كاملا في سياقه ومحاولة الفهم والتحليل للموقف والسؤال الهام والحساس وكيفية صياغة الاجابة عنه.
يجب ان نلاحظ ان سؤال التلاميذ كان عن شيئين او حدثين: الاول متى يكون هذا (اي خراب الهيكل)، والثاني ماهي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟
السيد المسيح اجاب عن السؤال بجزئيه بغير اعطاء وقت معين، ولكنه اكتفى باعطاء علامات واشارات بغير تحديد زمان معين سواء لوقت الساعة او لدمار الهيكل (والذي حدث بعد اربعين عاما تماما كما اخبر السيد المسيح، وتمت كل العلامات التي اشار اليها كاملة وغير منقوصة) ثم تناول اجابة السؤال الثاني عن وقت او ساعة مجيئة وانتهاء الدهر، اي بدء الدينونة وقيامة الاموات، فقال لهم: (36 واما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما احد ولا ملائكة السموات الا ابي وحده.) (بحسب رواية متىّ) أو(32 اما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما احد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن الا الآب) (بحسب رواية مرقس)، وفي هذه الرواية اضاف مرقس قوله ( ولا الابن) وبالرجوع الى سياق الكلام في بشارة مرقس ( 26 وحينئذ يبصرون ابن الانسان اتيا في سحاب بقوة كثيرة ومجد) نعرف ان المسيح هنا كان يتكلم عن (ابن الانسان) اي انه كان يتكلم (بالناسوت) بوصفه (الله الظاهر في الجسد)، اي بمعنى انه لا يجاوب عن السؤال بوصفه الابن الازلي في مجده، كليّ العلم والمعرفة، بل بوصفه الابن الازلي المتواضع في صورة العبد الذي اخلى نفسه عن المجد (فيليبي 2: 5- 11)، المتجسد في صورة الناس (ابن الانسان).
المشكلة التي دائما لا يستطيع غير المسيحي ان يقبلها هي ان المسيح هو (الله الظاهر في الجسد) هو انسان كامل واله كامل، اتحد في شخص المسيح اللاهوت والناسوت بلا اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، فلم يذب الناسوت في اللاهوت، ولم يطغ اللاهوت على الناسوت، كان المسيح حال تجسده مولودا من العذراء يعيش كانسان كامل، يأكل ويشرب ويتعب وينام ويتألم ويموت، بالناسوت مثل كل الناس، ولكن كاله كامل باللاهوت ، يصنع المعجزات بالشفاء واقامة الموتى ويأمر الطبيعة فتطيعه والشياطين فتخضع له ولا يمسكه الموت فيقوم في اليوم الثالث، فهو الذي جاع وعطش بالناسوت بعد صوم اربعين يوما في البرية (متى 4: 2 - 4) قام باللاهوت بتحويل سمكتين وخمسة ارغفة الى كميات يشبع منها الالاف ويفيض (متى 14: 14 - 20)، والذي كان نائما في المركب وقت العاصفة بتعب الناسوت ، هو الذي قام باللاهوت وانتهر العاصفة فاطاعته (مرقس 4: 35 - 41)، وهو الذي بكي امام قبر لعازر صديقه بالناسوت ، ولكنه اقامه ايضا من الموت بعد اربعة ايام باللاهوت (يوحنا 11: 35- 44) ، وهو الذي مات على الصليب بالناسوت ولكنه قام من بين الاموات في اليوم الثالث باللاهوت (اعمال الرسل 2: 23 - 24).
اجابة السيد المسيح هنا كانت بالناسوت، هو باللاهوت يعرف الساعة، بل هو من سيحددها وهو بمجيئه وصوته سيقوم الاموات للدينونة، وهو بشخصه سيكون الديّان للبشر جميعا ، (راجع يوحنا 5: 24 - 30) ولكنه كانسان لا يعرف الساعة، بل ويحجب معرفتها عن البشر ايضا كما حجب مجد اللاهوت حال تجسده، او بتعبير الكتاب المقدس (تواضع واخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس) (راجع الرسالة الى فيليبي 2: 5 - 11) وهو في حال كونه متخذا صورة العبد صائرا في صورة الناس، وفي تواضعه الكامل واخلاء مجد لاهوته الكامل، ارتضى ايضا لنفسه كانسان كامل ان يكون مثل البشر وتختفي عنه الساعة، كعبد وكانسان، اما المسيح في لاهوته، كابن الله الازلي فهو واحد مع الاب في الجوهر (يوحنا 10: 30).
اما باقي اجابة السيد المسيح والتي تلت هذا الاعلان، فهي تشرح سبب وفلسفة اخفاء الساعة عن السائلين (وان يختار ان يجيب عنها بالناسوت وليس باللاهوت)، فلا يمكن (منطقيا) ان يكون سبب اخفاء الساعة هو اكتساب عنصر المفاجأة لكي يكون الانسان مستعدا في كل وقت وكل زمان ان تكون الساعة التالية هي الساعة المقصودة، ثم يتم تدميروافشال هذا كله باعلان وقت الساعة ؟؟ ولنقرأ معا كلام السيد المسيح بنفسه في سياق اجابته عن السؤال.
بحسب رواية البشير مرقس:
(32 واما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما احد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن الا الاب. 33 انظروا.اسهروا وصلوا لانكم لا تعلمون متى يكون الوقت. 34 كانما انسان مسافر ترك بيته واعطى عبيده السلطان ولكل واحد عمله واوصى البواب ان يسهر. 35 اسهروا اذا.لانكم لا تعلمون متى ياتي رب البيت امساء ام نصف الليل ام صياح الديك ام صباحا. 36 لئلا ياتي بغتة فيجدكم نياما. 37 وما اقوله لكم اقوله للجميع اسهروا)(مرقس 13: 32 - 37)
وبحسب رواية البشير متىّ:
(36 واما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما احد ولا ملائكة السموات الا ابي وحده. 37 وكما كانت ايام نوح كذلك يكون ايضا مجيء ابن الانسان. 38 لانه كما كانوا في الايام التي قبل الطوفان ياكلون ويشربون ويتزوجون ويزوجون الى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك 39 ولم يعلموا حتى جاء الطوفان واخذ الجميع.كذلك يكون ايضا مجيء ابن الانسان. 40 حينئذ يكون اثنان في الحقل.يؤخذ الواحد ويترك الاخر. 41 اثنتان تطحنان على الرحى.تؤخذ الواحدة وتترك الاخرى
42 اسهروا اذا لانكم لا تعلمون في اية ساعة ياتي ربكم. 43 واعلموا هذا انه لو عرف رب البيت في اية هزيع ياتي السارق لسهر ولم يدع بيته ينقب. 44 لذلك كونوا انتم ايضا مستعدين لانه في ساعة لا تظنون ياتي ابن الانسان. 45 فمن هو العبد الامين الحكيم الذي اقامه سيده على خدمه ليعطيهم الطعام في حينه. 46 طوبى لذلك العبد الذي اذا جاء سيده يجده يفعل هكذا. 47 الحق اقول لكم انه يقيمه على جميع امواله. 48 ولكن ان قال ذلك العبد الردي في قلبه سيدي يبطئ قدومه. 49 فيبتدئ يضرب العبيد رفقاءه وياكل ويشرب مع السكارى. 50 ياتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره وفي ساعة لا يعرفها. 51 فيقطعه ويجعل نصيبه مع المرائين.هناك يكون البكاء وصرير الاسنان)(متى 24: 36 - 51)
الكلام اذا يشرح نفسه بنفسه، وقت الساعة وفلسفتها هو ان يكون الانسان مستعدا في كل وقت وكل زمان لتقديم حسابا عن حياته، فاذا عرف الانسان الوقت المفاجيء، لصار مثل العبد السيء الذي يستخدم معرفة الوقت في تحقيق الشرور بدلا من الاستعداد واليقظة والسهر.
******************
المرة الثانية:
كانت بعد قيامة السيد المسيح من الاموات بعد الصليب، وبعد ان اعلن السيد المسيح استرداد كل المجد والسلطان الذي اخلى نفسه منه بتواضع التجسد، وكما اعلن قائلا (تقدم يسوع وكلمهم قائلا. دفع اليّ كل سلطان في السماء وعلى الارض.) (متى 28: 18) حاول التلاميذ مرةاخرى، ان يسألوه عن اوقات اختصها الله لنفسه، وكانت اجابة السيد المسيح مختلفة كما جاءت : ( 6 اما هم المجتمعون فسالوه قائلين يا رب هل في هذا الوقت ترد الملك الى اسرائيل.7 فقال لهم ليس لكم ان تعرفوا الازمنة والاوقات التي جعلها الاب في سلطانه.) (اعمال الرسل 1: 6 - 7)
الان اجابة السيد المسيح جائت مختلفة، فهو لا يقول انه لا يعلم الساعة، ولكنه يقول انها محجوبة عن التلاميذ، وليس عليهم ادراك ما قد اختصه (الآب) في سلطانه، واعلان المسيح السابق انه مع الاب واحد في الجوهر اللاهوتي (انا والآب واحد) (يوحنا 10: 30) وان كان الابن حال تجسده وتواضعه يقول ان الآب بهذا المقياس ( اعظم منه) (يوحنا 14: 28) حيث ان الاب لم يأخذ جسد تواضعنا ، ولكن هذا صنعه الابن، في هذا فان الابن المتواضع يعطي الآب في مجده المكانة اللائقة به.
من هذا يفهم كل انسان يبحث عن الحق، ان السيد المسيح اخفى الساعة بسبب كونها يجب ان تكون مجهولة وغير معلومة للانسان، وكونه ابن الانسان فهو بتواضعه واخلائه لمجد لاهوته (فيليبي 2 : 5 - 11) يشترك معه في كل ما يجوز على الانسان من جوع وعطش والالام حتى الموت بالتجسد أو بالناسوت، وايضا في عدم معرفة الساعة، (فاذ قد تشارك الاولاد في اللحم والدم اشترك هو ايضا كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت اي ابليس) (عبرانيين 2: 14) ولكن كونه ابن الله فهو واحد مع الآب في الجوهر يعرف ما يعرفه الاب ويملك ما يملكه الاب (راجع يوحنا الاصحاح الخامس)
************
مزيد من التفاسير العربية :
متى الاصحاح 24 للقمص تادرس يعقوب ملطي
مرقس الاصحاح 13 للقمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير هنري أ. أيرونسايد (متى 24: 36-44)
تفسير وليم ماكدونالد(متى 24: 36)
تفسير وليم ماكدونالد (مرقس 13: 32)
تفسير بنيامين بنكرتن (متى 24: 36-41)
مزيد من التفاسير باللغة الانجليزية: