منذ أربعة عشر قرنا عندما رغب محمد نبي الاسلام في تأسيس دين يوحد قبائل العربان سياسيا، كان يخضع للثقافات التي تنتشر في عصره ، و من هذه البيئة خرج النص القرآني . كانت من متطلبات الدين و الدعوة الاساسية كتاب رباني يحاكي و يضاهي ما يملكه أهل الكتاب، كتاب يحمل التوقيع الالهي.
وفي الموضوع السابق (التناقد الداخلي) عندما تكلمت عن التناقض الداخلي للمنظومة الاسلامية، كنت قد ذكرت أن القرآن في المفهوم الاسلامي هو الكلام الحرفي المنطوق على لسان الله أملاه إلى جبريل، و الذي نقلة حرفيا إلى محمد حرفيا، فكان القرآن هو نسخة مطابقة 100% من اللوح المحفوظ تحت العرش الالهى (البروج 21، 22)، وكنت قد ذكرت أن هذا يتناقض منطقيا مع وجود الناسخ و المنسوخ، و كذلك مع وجود أقوال لا يمكن أن يقولها الله بنفسه كما ذكرت في سورة الفاتحة و غيرها من أقوال موسى و عيسى و يوسف و الانبياء و المؤمنيين بل و محمد نفسه، ومنها أقوال لم يستطع الكاتب الاسلامي –أيا كان- أن يستدركها بكتابة "وقل.." أو "وقال.." أو أى فعل آخر يوحي بأن المتكلم هو الله شخصا، و بالتالي يتجنب الايحاء بأن هناك متكلمون آخرون في القرآن. وهنا أستطرد في مزيد حول هذه النقطة:
فمن المفارقات العجيبة أن يسقط كاتب القرآن سهوات توضح أن النص كاتبه بشري يتكلم على لسان الله و لكنه يسهو أحيانا، مثل:
- كيف يسبح الله ؟ و من المعروف أن التسبيح هو فعل بشري موجه إلى الإله ، و لا يجوز منطقيا أن يسبح الله نفسه كما في (الصافات 166، الاسراء 1)
- كيف يشهد الله لنفسه أنه هو الله، ومن المتكلم في (آل عمران 18، الحشر 22-24)؟ فقد نسى الكاتب أن يلحق "قل.." في بداية الآيات ليحولها من صيغة الغائب "هو.." إلى صيغة المتكلم الآمر "قل هو.."
- عندما يتكلم الراوي و يذكر "قال الله" بصيغة الغائب ، كان من الافضل للتأكيد على ألوهية المؤلف أن يكتب "قلت.." ، و ذلك كما في (آل عمران 55، المائدة 12، 110، 115، 116، 119، يوسف 66، النحل 51، الفتح 15)
كل ما سبق يقودنا إلى النقطة المنطقية الاساسية و هو عدم امكانية الهروب من العامل البشري بين ثنايا القرآن، و هو ما يتناقض مع حرفية الوحي في المفهوم الاسلامي ، و هذا ما سميته في المقال الأول :"التناقض الداخلي للاسلام".
ومن أجل توضيح أثار المفهوم الحرفي للوحي على بقية المنظومة الاسلامية سوف نتحرى ذلك من خلال الازمات التي آثارها النص القرآني ومن أمثلتها:
* أزمة عدم قابلية القرآن للترجمة إلى مختلف اللغات:
من المنطقي أن نفترض أن خالق العالمين قادر على توصيل رسالته إلى العالمين و ليس إلى العرب فقط ، و لكن التفكك اللغوي في القرآن و كذلك الخوف من التحريف (=تغيير الحرف) كان عامل أساسي في منع ترجمة القرآن إلى أي لغة لمدة ما يقرب من 13 قرن ، و من المفارقات أن محاولات الترجمة القرآنية التي حدثت في القرن العشرين (القرن ال14) لا يستطيع مسلم غيور أن يدعي بأنها القرآن ، بل هي ترجمات تفسيرية و إيضاحية للنص و لا تحمل قدسية القرآن.
وكانت النتيجة المنطقية لفقدان التواصل اللغوي بين المنظومة الاسلامية و الشعوب الاخرى أن يفرض الاسلام فرضا بقوة السيف ، وعلي حد السيف انتشر الاسلام كما يذكر التاريخ .
و لست هنا بصدد ذكر الدوافع الاخرى الاقتصادية و الدينية للحروب الاسلامية، و لكنها تشير بقوة لفقدان التواصل المعرفي و اللغوي مع بقية العالم، و هو ما يناقض ما تدعيه المنظومة الاسلامية من عالمية، فالمنطق التاريخي يؤكد أن الاسلام عربي النشأة و الصبغة ولا يمكن أن ينتشر إلا بالحرب أو التناسل، وليس بالإقناع أو الدعوة كما يحاول المشايخ المعاصرون أن يمارسوه ، فالاسلام المعاصر يحاول أن يتلون بصبغة لا تلائم إله العرب.
* أزمة عثمان و حرق المصاحف و الذكر المحفوظ:
عندما بدأت المصاحف تعدد في أيام عثمان، على الرغم من وحدة اللغة و عدم وجود ترجمات، بدأت تظهر أزمة الوعد الالهي " إنا نزلنا الذكر و إنا له لحافظون"(الحجر 9)، فالوعد الالهي للقرآن يؤكد أنه لم و لن يفقد أو يتغير فيه حرفا واحدا من النص، و هنا يتطوع عثمان بالقيام العمل الالهي الذي لم يستطع الاله نفسه القيام به، فقام يجمع المصاحف من الاقطار، و جمع القرآن و أحكم نسخة بلغة قريش ، و أرسل ليحرق بقية النسخ ، و كان هذا أحد أهم الاسباب التي أثارت حفيظة المسلمين وساهم فيما بعد في وضع بذور الخطة لقتله (1). ما هو المصدر الاساسي لهذه الازمة إلا التناقض الاساسي بين ثنيات القرآن ، و المفهوم المحمدي الذي أكد أن الوحي الإلهي هو وحي حرفي "إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" (النجم 4)، فكانت الفروق بين المصاحف في الحرف و التشكيل و الزيادة و النقصان بمثابة كارثة تمس صميم المنظومة الاسلامية.
* أزمة الوسيط البشري "محمد" و أميته:
مرة أخرى كان الوحي الحرفي للقرآن عاملا مهما في ترسيخ أسطورة أخرى، هي أسطورة جهل محمد بالقراءة و الكتابة، و بهذا يضمن المسلم أنه لا وجوج للعنصر البشري في الوحي ، و أن المصدر الوحيد للوحي هو إله الاسلام. وتعمد المفسرون و شراح القرآن أن يفسروا لقب "النبي الأمّي" (الأعراف 157، 158) بمعنى "النبي الجاهل القراءة و الكتابة" ، و هذا في مفهومهم ينزه القرآن عن أى شبهة بشرية أو تدخل بشري.
و لكننا نفاجأ بأن اللقب في القرآن لا يحمل هذا المعنى، ففي سورة الجمعة آية 2 "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" ، يؤكد الكاتب القرآني أن الأميين هم العرب ، و أن الرسول هو رسول بعث للعرب الأميين.
وللمزيد من الفهم نوضح أن الشد على الميم في كلمة "أمّيين" يؤكد أن الحرف مضعف و أن أصله " أمميين" بمعنى أهل الأمم ، و هو نفس اللقب الذي كان يستعمله اليهود لوصف غير اليهود (2) . فكانت محاولات الرسول المستميتة أن يثبت لهم أنه هو رسول الأمم من العرب ، فهو النبي الأممي إلى العرب الأمميين ، و في اللغة العربية تم ضغم الحرف المتكرر و إضافة علامة شد ، ليصبح "الْأُمِّيِّ، و الْأُمِّيِّينَ". وهذا مما يؤكدة صحيح السيرة و السنة التي تؤكد على معرفة الرسول بالقراءة و الكتابة هو موقفه في ساعات النزع الأخير حينما أمر "أعطوني قرطاسا و قلما أكتب لكم كتابا لا تضل بعده أمتي" (3)، وأيضا حينما وقع بنفسه في صلح الحديبية "محمد بن عبد الله" بدلا من "محمد رسول الله" عندما رفض أهل قريش التوقيع برسول الله (4). ومن هنا يتضح أن أسطورة جهالة الرسول كانت محاولة مستميتة للحفاظ على قدسية النص القرآني كي لا تشوبه شائبة من بشرية الرسول. و هذا نابع من أسطورة حرفية الوحي القرآني الذي يؤكد على أن الوحي هو أملاء حرفي.
من خلال هذه الأزمات الثلاث التي سقتها كمثال ، لا يسعني إلى أن أكمل الصورة سريعا حتى تكتمل الفكرة. فالوحي اليهودي و المسيحي لا يحمل صفة الحرفي و أنما هو وحي فكري و في بعض الأحيان تصويري. الوحي الفكري يؤكد على أن الله يلهم الكاتب بفكرة و يعصم الفكرة بروحه القدوس ،وهذا يجعل النص قابل للترجمة وللدعوة إلى جميع العالم مع الاحتفاظ بالفكرة . هذا لا يمنع أن النص يملك بعض من القدسية ، و لكنه نص مرن قابل للفهم و النقل ، و لا يمكن لأي مسيحي أو يهودي أن ينكر الترجمات و يقلل من قدسيتها ، فالفكرة نفسها هي المقدسة و ليس النص الذي يمثل وعاء لنقل الفكرة " الَّذِي جَعَلَنَا كُفَاةً لأَنْ نَكُونَ خُدَّامَ عَهْدٍ جَدِيدٍ. لاَ الْحَرْفِ بَلِ الرُّوحِ. لأَنَّ الْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلَكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي" (2كور 3: 6) ، و النوع الآخر من الوحي هو التصويري ، وهو إرسال رؤيا أو حلم تصويري إلى النبي ، و يتولى النبي بعد ذلك صياغة المضمون باسلوبه البشري تحت مظلة من عصمة الروح القدس. و بالتالي فالوحي في اليهودية و المسيحية هو تفاعل جدلي واضح و معترف به بين الإلهي و البشري، وهو رصد لواقع هذا التفاعل، و هذا أيضا يجعل من الوحي اليهودي المسيحي وحيا حواري بين طرفين "ديالوج" وليس إملائي"مونولوج" . و لعل هذا كان من أحد أهم الاسباب التي أدت إلى أزمة في الحوار المسيحي الأسلامي، فالطرفان لا يتفقان علي معاني المصطلحات قبل الحوار.
مما لا شك فيه أن الوحي الحرفي في المنظومة الاسلامية هو نتاج مفهوم خاطئ أنتقل من عرب الجاهلية إلى الرسول الأمي ، الذي كان يحلم بعرب متحدين في أمة واحدة و كتاب إلهي واحد كما في اليهود و النصارى، و لكن خانه المنطق، و التاريخ، و اللغة، فلم يأت إبداعه إلا إبداع بشري يدعي الألوهة. فالقارئ المحايد للقرآن يرى فيه من التفكك الفكري و الزمني ما يجعله بلا مضمون مميز. فما فائدة السجع بلا معنى ، و ما جدوى النص بلا مضمون.
الهوامش والمراجع:
1) للتفاصيل راجع: كتاب المصاحف للسجستاني ، صحيح البخاري- كتاب فضائل القرآن رقم 4604، السيوطي-تاريخ الخلفاء
2) فعند اليهودي البشر صنفان: اليهودي و الأممي، و العرب كانوا من الصنف الثاني ، أى الأمم التي ليس لها كتاب
3) صحيح البخاري 4079، مسند أحمد 3165
4) صحيح البخاري 2501، 3920، سنن الدارمي 2395، مسند أحمد 17892